مدارك / هيئة التحرير
وسط الركام والدمار، وفي قلب معاناة شعب يواجه أهوال الإبادة والحصار والتجويع، تتحول جدران غزة المدمرة إلى لوحات فنية نابضة بالحياة، تعبر عن صمود سكان القطاع وتوثق أحلامهم وآلامهم.
الكتابة على الجدران في غزة، من منظور الفلسطينيين، ليست مجرد فن، بل هي وسيلة مقاومة ورمز للصمود والثبات، تعبيرًا عن الهوية الفلسطينية وتحديًا للقصف والموت اليومي الذي يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد قرابة عام ونصف من حرب الإبادة الجماعية، أصبحت الجدران وسيلة للتعبير عن الألم والصمود، خصوصًا مع انقطاع الكهرباء والإنترنت الذي قلص من قدرة المواطنين على الوصول إلى وسائل الإعلام.
جدران تحكي قصصًا
في الشوارع التي دمرتها الغارات الجوية والقصف المدفعي، تنطق الجدران بحكايات الصمود والتحدي. بألوان تختلط برماد الدمار، تحمل رسومات لأطفال يطيرون بالونات الحرية، ووجوه مبتسمة رغم الحزن، وكلمات مثل “لن ننكسر”، و”غزة رمز العزة”، و”وعد سنعيد بناؤها”.
على بقايا جدران أحد المنازل، رسم فنان فلسطيني صورة امرأة تحتضن طفلها بجانب بركة من الدماء، وخلفها منازل مدمرة، مع عبارة باللغة الإنجليزية: “Stop the war” (أوقفوا الحرب). تقول الفنانة الشابة ليلى أبو طه: “نستخدم الجدران كصفحة بيضاء لنروي حكاياتنا للعالم. لا يمكن لأحد أن يسكت صوتنا. حتى وسط الدمار، سنظل نحلم ونعبر.”
الكتابة فعل مقاومة
تاريخيًا، اعتمد الفلسطينيون الكتابة على الجدران كوسيلة إعلام وتعبير في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصًا خلال الانتفاضة الأولى عام 1987. كانت الكتابات تنقل رسائل الفصائل عن الإضرابات والفعاليات، إضافة إلى نعي الشهداء. وكانت المهمة خطرة، حيث يتحرك الكُتاب تحت الحراسة والمراقبة لتجنب الكمائن التي نصبها الاحتلال.
في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة، عادت الكتابة على الجدران لتأخذ مكانتها كوسيلة مباشرة للتعبير عن الألم والصمود. يقول الكاتب السياسي وأستاذ الإعلام إياد القرا: “الجدران هي وسيلة إعلامية قديمة متجددة. في غياب المنصات الإعلامية الكافية، تعكس الجدران صوت الفلسطينيين للعالم وتوثق صمودهم”.
الفن تحت الحصار
رغم نقص المواد الأساسية، لا يعرف الإبداع حدودًا في غزة. يستخدم الفنانون مواد متاحة مثل الطلاء محلي الصنع لإنتاج لوحات جدارية تحمل رسائل قوية. يشير أستاذ الفنون الجميلة، الدكتور خالد النجار، إلى أن “الفن في غزة ليس مجرد هواية، بل هو جزء من النضال الوطني. الرسومات والعبارات المكتوبة على الجدران تعبّر عن الهوية الثقافية والسياسية للشعب الفلسطيني.”
رسائل إلى العالم
تحمل الكتابة على الجدران في غزة رسائل إنسانية وسياسية تهدف إلى تحريك الضمير العالمي. كُتبت بعض العبارات باللغة الإنجليزية لتصل إلى جمهور أوسع، مثل: “Stop the war on Gaza” (أوقفوا الحرب على غزة)، و”We deserve to live in peace” (نستحق أن نعيش بسلام). تقول ليلى: “نريد أن يعرف العالم أننا لسنا أرقامًا أو إحصائيات. نحن بشر نحلم بالحرية والكرامة.”
ومن بين الرسائل المكتوبة على الجدران: “حتى الطيور في غزة تمتلك جناحين ولا تهاجر”، و”ما زال ابني تحت الركام”، و”حسبنا الله ونعم الوكيل”، و”لست براحل”. وعلى أنقاض مسجد، كتبت عبارة: “ستبقى غزة لنا وإن أصابها خذلان العالم كله.”
رمزية الجدران
على جدران المنازل والمساجد المدمرة، تقف الكلمات شاهدة على الإصرار الفلسطيني في مواجهة التهجير والدمار. في أحد المنازل المدمرة كتب: “بيتي وإن هدموك لست براحل.” هذه الكلمات تحمل رسالة صمود في وجه محاولات التهجير القسري التي يمارسها الاحتلال.
شاهد على الألم والأمل
رغم كل ما تحمله هذه الجدران من معاناة وألم، تظل رمزًا للأمل والصمود. الكتابة على الجدران ليست مجرد تعبير عن الألم، بل هي دعوة للعالم ليرى غزة بعين سكانها، ويتحرك لإنهاء معاناتهم. هي صرخة شعب يتحدى الموت بإرادة الحياة، ووسيلة مقاومة تزرع الأمل في قلوب سكان القطاع.
تستمر جدران غزة في حكاية قصص الصمود، وتؤكد للعالم أن الفلسطينيين، رغم كل شيء، يتمسكون بالأمل والحرية.