مدارك / هيئة التحرير
بعد نحو عام ونصف على معركة طوفان الأقصى وما رافقها من إبادة جماعية ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، واتساع دائرة العدوان الإسرائيلي لتشمل الضفة الغربية ولبنان، يعود إلى الواجهة الحديث والتساؤل عن جدوى المقاومة في مواجهة الاحتلال. وبينما تؤمن غالبية الخبراء بأن المقاومة هي جدوى مستمرة، يطرح آخرون تساؤلات حول الأكلاف الباهظة للمواجهة، خصوصًا مع الوضع الكارثي الذي وصل إليه قطاع غزة.
السياق السياسي للحرب
عملية طوفان الأقصى جاءت في سياق سياسي عام واضح ومحدد المعالم، يرتبط بالظرف الذي كانت تمر به القضية الفلسطينية، حيث بدا أنها في طور الطمس والنفي والإلغاء عبر سلسلة من الاتفاقيات الإبراهيمية التحالفية التطبيعية بين عدد من الدول العربية والكيان الإسرائيلي.
وفي هذا الإطار، يشير المحلل السياسي ساري عرابي إلى أن المعركة، التي تفجرت في 7 أكتوبر 2023، عندما عبر آلاف المقاومين الفلسطينيين من كتائب القسام، تبعهم مئات من الفصائل الأخرى إلى المواقع العسكرية ومستوطنات غلاف غزة، تمكنت من السيطرة عليها وقتل وأسر مئات الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، في أكبر عملية عسكرية اعتمدت على الخداع الاستراتيجي ضد إسرائيل منذ تأسيسها.
وقد جاءت هذه العملية في سياق بيئة سياسية شهدت تراجعًا عن الالتزام بالقضية الفلسطينية، حيث تجاوزت اتفاقيات التطبيع الفلسطينيين في أي تفاهمات إقليمية. إلى جانب ذلك، تفاقمت المخاطر الاستيطانية ومشاريع الحسم في الضفة الغربية، مع تصاعد التهديدات تجاه المسجد الأقصى، وتعزيز الحصار على قطاع غزة. هذا المشهد، الذي بدا فيه الأفق السياسي مسدودًا سواء في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي أو في العلاقات الوطنية الداخلية، جعل انفجار فلسطيني ما أمرًا حتميًا.
وفي ظل هذا السياق، يرى عرابي أن الخيارات كانت محدودة، إما أن تنتهي القضية الفلسطينية ببطء شديد أو أن تُستعاد من جديد.
ورغم أن التداعيات كانت كبيرة والأثمان هائلة، خصوصًا داخل قطاع غزة، إلا أن السياق فرض هذه المواجهة. قوة النيران الهائلة التي يملكها الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب الدعم الأمريكي، أسهمت في إحداث هذا الدمار الكبير والمقتلة الهائلة، في ظل ما بدا تخاذلًا عربيًا، بل إرادة متواطئة أتاحت للاحتلال فرصة لسحق المقاومة داخل القطاع.
التداعيات والجدوى
التداعيات لم تتوقف عند حدود ما دفعه الفلسطينيون من ثمن باهظ، وهو ما يوضحه عرابي بأن الحدث ما يزال جاريًا ومفتوحًا على احتمالات كثيرة، وإن كان مسار الأحداث على مستوى يخدم الفلسطينيين بطيئًا بسبب اختلال موازين القوى بشكل فادح لصالح الاحتلال الإسرائيلي. وخلال أربعة عشر شهرًا من العدوان، قتلت إسرائيل قرابة 45 ألف فلسطيني، وأصابت أكثر من 106 آلاف آخرين بجروح، ولا يزال هناك 10 آلاف مفقود. كما دمرت نحو 80% من مباني القطاع، مما أدى إلى تهجير 95% من سكانه.
وخلصت جميع الاستنتاجات، بما في ذلك جهات حقوقية دولية، إلى أن اتساع دائرة القتل والتدمير الإسرائيلي غير مبرر؛ إنما يأتي في إطار نية مبيتة لارتكاب جريمة إبادة تهدف إلى إفناء الفلسطينيين وتدمير قدرتهم على العيش حاليًا ومستقبلًا.
وفيما يتعلق بجدوى المقاومة، تُظهر الأحداث أنها أعادت إنتاج الشعور العربي تجاه القضية الفلسطينية، وبرزت كجزء من حركة تحرر وطني أعادت التأكيد على أن الصراع عربي-إسرائيلي، وليس كما حاولت إسرائيل تأطيره كصراع فلسطيني-إسرائيلي فقط. هذه النقطة أوضحها الخبير العسكري والاستراتيجي نضال أبو زيد من الأردن، الذي يرى أن المقاومة، رغم الأثمان الباهظة، تعكس حالة مشابهة لما حدث في فيتنام. ويشير أبو زيد إلى أن الاحتلال الأمريكي استخدم أسلحة مدمرة مثل النابالم، لكنه خسر الحرب رغم كل ذلك. بالنسبة للمقاومة، فإنها تتحمل تكلفة عالية، لكنها تُلحق خسائر مادية وبشرية جسيمة بالاحتلال، مما يزعزع صورة “الجيش الذي لا يُقهر” ويفتح آفاقًا بعيدة المدى لتغيير موازين القوى.
وعلى هذا الأساس، يرى أبو زيد أن معركة طوفان الأقصى أثبتت قدرة المقاومة على الصمود، وأعادت القضية الفلسطينية إلى الطاولة الدولية، وفضحت الوجه الحقيقي للاحتلال أمام الشارع الغربي. كما أن هذه المعركة أسهمت في إعادة تشكيل الشعور العربي تجاه القضية الفلسطينية، رغم محاولات الاحتلال المتكررة لتجزئة الصراع وتقسيمه بين فصائل مختلفة.
أما عن الأهداف التي رفعها الاحتلال الإسرائيلي في بداية العدوان، فقد أعلن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أربعة أهداف رئيسية: القضاء على حركة حماس، استعادة الأسرى، ضمان ألا تشكل غزة تهديدًا لإسرائيل مجددًا، واستعادة الردع. ورغم إضافة هدف خامس يتمثل في عودة مستوطني الشمال إلى منازلهم بأمان، إلا أن الخبراء يجمعون على أن إسرائيل فشلت في تحقيق أي من هذه الأهداف. بل إن آلة الحرب الإسرائيلية، رغم دمارها الواسع، أغرقت الاحتلال في وحل غزة، وربما توسعت تداعياتها إلى لبنان. كل ذلك أدى إلى رفع دعاوى ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، في خطوة غير مسبوقة.
الانعكاسات الإقليمية والدولية ومستقبل الاحتلال
الحصاد السياسي والاجتماعي لمعركة طوفان الأقصى يظهر بوضوح في عودة الشعوب العربية إلى مربعها الصحيح، متجاوزة سنوات من الوهن والخذلان. هذا ما تشير إليه رانيا لصوي، العضو في حزب الوحدة الشعبية الأردني، التي تؤكد أن المعركة أسهمت في تجاوز فكرة “العدو الذي لا يُهزم”، ورسخت الإيمان بأن الكفاح المسلح هو الطريق إلى التحرير.
كما تضيف لصوي أن معركة طوفان الأقصى ساهمت في تشكيل محور مقاومة عالمي، وحراك شعبي واسع لدعم المقاومة ورفض التطبيع. هذا الزخم قد يعيد العدو إلى حالة من العزلة، ويفعل أدوات المقاطعة الاقتصادية والسياسية التي تشكل ضغطًا على الأنظمة العربية للتراجع عن اتفاقياتها مع الاحتلال.
التاريخ والجغرافيا يشهدان أن الاستكانة لا تطرد محتلًا، وأن المقاومة هي عملية تراكمية تُبنى نتائجها بالنقاط. ومع مرور الوقت، يصبح الزوال للمحتل حتمية تاريخية، والبقاء والانتصار لأصحاب الأرض والحق.