مدارك / هيئة التحرير
على امتداد 12 كم وبعرض كيلومتر واحد، تستقر منطقة المواصي على الشريط الساحلي الفلسطيني للبحر الأبيض المتوسط جنوب غربي قطاع غزة. كانت هذه المنطقة واحة خضراء تعج بالحياة، لكنها تحولت إلى مأوى لعشرات آلاف النازحين، تتكدس فيها الخيام في مشهد مأساوي.
تنطلق المواصي من جنوب دير البلح شمالاً، مروراً بخان يونس، وصولاً إلى رفح جنوباً، وتغطي مساحة تُقدّر بـ12 ألف دونم، أي نحو 3% من مساحة القطاع. تتكون طبيعتها الجغرافية من كثبان رملية تُعرف محلياً بـ”السوافي”، تتخللها أراضٍ زراعية خصبة غنية بالمياه الجوفية.
واقع النزوح في ظل الحرب
منذ الأسابيع الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، صنّفت إسرائيل منطقة المواصي كـ”منطقة إنسانية”، ووجهت النازحين من شمال القطاع وجنوبه إليها. نتيجة لذلك، أصبحت المنطقة، التي كان عدد سكانها لا يتجاوز 9 آلاف نسمة، غارقة بمئات الآلاف من النازحين، وسط غياب شبه كامل للبنى التحتية وقصف متواصل.
التقسيم الإداري والبنى التحتية
تنقسم المواصي إلى منطقتين متصلتين جغرافياً؛ الأولى تتبع محافظة خان يونس، والثانية تتبع محافظة رفح. يغلب على المنطقة الطابع الزراعي مع انتشار كثبان رملية، بينما تظل المناطق السكنية محدودة. كما تعاني المنطقة من غياب البنى التحتية الأساسية، مثل الشوارع المرصوفة وشبكات الصرف الصحي والكهرباء.
كان عدد سكان المواصي يُقدر بنحو 9 آلاف نسمة، يعتمد معظمهم على الزراعة والصيد، إضافة إلى مشاريع تجارية صغيرة. ورغم الطبيعة الخصبة للمنطقة، عانى السكان من نقص في الخدمات الأساسية.
الإرث التاريخي وسنوات الاحتلال
عرفت المواصي تسميات وتطورات متعددة. خلال الحكم العثماني، أُطلق عليها الاسم نسبة إلى برك المياه الامتصاصية المستخدمة للري. في الحقبة المصرية، أصبحت مركزاً إدارياً وسياحياً. أما بعد احتلال عام 1967، تحولت المنطقة إلى مستوطنات إسرائيلية، كان أبرزها مجمع “غوش قطيف”، الذي حاصر الفلسطينيين داخل أراضيهم.
فرض الاحتلال سياسات قاسية على سكان المواصي؛ استولى على الموارد المائية بحفر أكثر من 30 بئراً لتلبية احتياجات المستوطنات، بينما فرض قيوداً صارمة على الفلسطينيين في استغلال مياههم. يقول الناشط أحمد سالم: “الاحتلال لم يكتفِ بسرقة الأرض، بل جعلنا عاجزين عن استثمارها حتى بعد انسحابه.”
خلال انتفاضة الأقصى (2000-2005)، فرض الاحتلال حصارا على المواصي وأصبحت معزولة، وكانت مستوطنات غوش قطيف تفصلها عن الامتداد السكاني في خانيونس ورفح، ولا يتم الوصول إليها إلاّ عبر حاجز غرب خانيونس، مع فرض قيود شديدة على التنقل ونقل البضائع، مما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية. وتعرضت الأراضي الزراعية للتجريف، وقطاع الصيد شهد انهياراً تاماً مع إغلاق مرافئ الصيادين، مما أثّر بشدة على مصادر رزق مئات العائلات. وكثيرًا ما كان المستوطنون يشنون هجمات على المواطنين وممتلكاتهم قتلا وحرقا وتجريفًا.
الانسحاب الإسرائيلي وتبعاته
في عام 2005، انسحب الاحتلال من المواصي بعد عقود من الاستيطان. رغم تفكيك المستوطنات، خلفت إسرائيل دماراً واسعاً تمثل في تجريف الأراضي الزراعية وهدم الآبار. المياه الجوفية تعرضت للاستنزاف، ما أدى إلى زيادة ملوحتها وتراجع استخدامها في الزراعة. مع حصار غزة بعد عام 2007، حاولت المنطقة استعادة دورها الزراعي وتحويلها إلى واحة خضراء وسلة القطاع من الخضار وبعض الفواكه لا سيما الجوافة. يستذكر المزارع محمد الأسطل الحال قائلا: “في الماضي، كانت المواصي جنة على الأرض، مياهها عذبة وأراضيها خضراء. الجوافة كانت تصدر إلى الدول الأوروبية، الآن أصبحت عبارة عن مدينة خيام.
حرب الإبادة ومعاناة النازحين
مع بدء معركة “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، تصاعد العدوان الإسرائيلي، ما تسبب بموجات نزوح ضخمة إلى المواصي. رغم وصفها بـ”منطقة آمنة”، تعرضت المنطقة للقصف المتكرر، لتتحول إلى “مدينة خيام”، يفتقر سكانها لأدنى مقومات الحياة.
ولا يوجد تقدير دقيق لعدد النازحين في المواصي، لأن العدد متغير بحسب تغير أوامر التهجير الإسرائيلية، ووفق التقديرات اليوم المنطقة تعجل بما لا يقل عن 400 ألف نازح، ما يزيد بأكثر من 40 ضعفاً عدد سكانها الأصليين.
وواجه النازحون أوضاعاً مأساوية فور وصولهم، حيث افتقرت المنطقة لأدنى مقومات الحياة. آلاف النازحين تكدسوا في خيام مؤقتة وسط غياب مياه الشرب والكهرباء والمرافق الصحية.
كما أن الهجمات الإسرائيلية لم تستثنِ المواصي، رغم تصنيفها منطقة إنسانية. شبه يوميا تتعرض المنطقة إما لغارة جوية أو قصفا مدفعيا أو استهدافا من الزوارق الإسرائيلية، وفيها حرق النازحون في خيامهم المرة تلو الأخرى بفعل الغارات الإسرائيلية وسط صمت العالم.
بمرارة تستذكر أم عبد الرحمن، كيف أجبرها الاحتلال على النزوح مع أسرتها من خانيونس إلى منطقة المواصي، ليجدوا أنفسهم هناك تحت نيران القصف المدفعي الإسرائيلي ليستشهد زوجها وأربعة من أبنائهما وتنجو هي مع ثلاثة من أبنائها، في جريمة قصف استشهد فيها 10 آخرون من العائلة. تقول “هربنا إلى المواصي لأنها كانت تُسمى منطقة آمنة، لكن القصف لاحقنا وقتل زوجي وأطفالي”.
وتشير بيانات وزارة الزراعة إلى أن نحو 80% من أراضي المواصي الزراعية لم تعد صالحة للاستخدام بسبب القصف الإسرائيلي أو تحولها إلى أماكن لنصب خيام النازحين.
مدينة الخيام
في المواصي التي تحولت إلى مدينة الخيام يهيم مئات آلاف النازحين بحثا عن الماء والطعام والأمن بعدما شُرّدوا قسراً من منازلهم، وفي هذا الصدد، يقول المزارع عادل النجار (65 عاما): كنت أزرع الجوافة والطماطم في المواصي منذ عقود، وكان لدي بئر ماء أعتمد عليه لري المحاصيل. اليوم، لم يبقَ شيء. نزحت إلى هنا مع أسرتي، ولا أعرف كيف سأبدأ من جديد”.
رمز الصمود الفلسطيني
في مواجهة الظروف القاسية، يسعى سكان المنطقة والنازحون فيها إلى التكيف والصمود. تشكلت لجان تطوعية لتوزيع المساعدات، وأقيمت مدارس مؤقتة للأطفال.
ورغم الألم المستمر، تبقى المواصي رمزاً للصمود الفلسطيني، محملةً بآمال النازحين في إنهاء معاناتهم وعودة الحياة إلى طبيعتها.