مدارك / هيئة التحرير
في صورة تهز المشاعر وتعكس مأساة إنسانية تفوق الوصف، ربط فلسطينيون شمال قطاع غزة ربط حجارة على بطونهم لتخفيف وطأة الجوع الذي ينهش أجسادهم. هذه الصرخة الصامتة التي وثقتها عدساتهم تجسد معاناة شعبٍ يواجه المجاعة الإسرائيلية؛ ليُسمع صوتًا خافتًا لكنه عميق، يختزل الألم والأمل في آنٍ واحد.
في يونيو 2024، وقف شاب فلسطيني حاملًا حجرًا على بطنه، وقال للعالم: “نحن نعيش في مجاعة”. كانت تلك اللحظة تذكيرًا بواقعة تاريخية حين ربط النبي محمد صلى الله عليه وسلم حجرًا على بطنه أثناء غزوة الخندق لمواجهة الجوع.
التجويع كسلاح حرب
مع بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر 2023، لم تكتفِ إسرائيل بالقصف والتدمير، بل لجأت إلى استخدام التجويع كسلاح حرب، في مخالفة واضحة لكل القوانين الدولية. أصدر وزير الجيش الإسرائيلي يوآف غالانت أمرًا بفرض حصار شامل على القطاع، معلنًا في تصريح شهير: “لن يكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا ماء، ولا وقود. نحن نحارب حيوانات بشرية”.
هذا الاعتراف العلني باستخدام التجويع أداةً في الحرب يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني. ترى مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي، لما بسطامي، أن إسرائيل تعتمد هذه السياسة ليس فقط كجريمة حرب، بل كجزء من عملية إبادة جماعية مستمرة تستهدف الفلسطينيين.
وتوضح في مقابلة مع مدارك أنه منذ 7 أكتوبر 2023، عملت إسرائيل على هندسة عناصر هذه الجريمة كافة ونفذتها على نحو شامل ضد الشعب الفلسطيني في القطاع، بهدف القضاء عليه لكونه فلسطيني، بشتى الطرق والوسائل.
“معادلة السعرات الحرارية” .. سياسة مستمرة
سياسات التجويع ليست جديدة. فمنذ عام 2006، فرضت إسرائيل ما يُعرف بـ”معادلة السعرات الحرارية”، التي تتيح الحد الأدنى من الغذاء لإبقاء سكان غزة على قيد الحياة دون أن يتمتعوا بحياة كريمة. واليوم، تُمنع المساعدات، وتُهاجم الأسواق والمخابز، ليجد السكان أنفسهم أمام شبح الموت جوعًا.
مراحل المجاعة.. من التهجير إلى الجوع القاتل
مع بدء الحرب على غزة، سعت إسرائيل منذ اليوم الأول إلى تشديد الحصار الذي فرضته منذ عام 2005، وأغلقت المعابر بالكامل، بينما استهدفت بالقصف كل ما يضمن البقاء للفلسطينيين: الأسواق، الأراضي الزراعية، ومخازن التموين، محيلةً حياة الناس إلى جحيمٍ لا ينقطع.
في الأيام الأولى، سارع السكان إلى شراء ما استطاعوا من طعام ومواد أساسية، قبل أن تصدر إسرائيل أمرًا غير قانوني بإخلاء سكان محافظتي غزة والشمال، مطالبةً إياهم بالنزوح جنوبًا في 13 أكتوبر 2023. ولإجبارهم على الرحيل، شنت الطائرات غارات متواصلة، وأحاطت المكان بأحزمة نارية واقترفت مجازر دامية، ودمرت الأسواق والمخابز التي يعتمد عليها الناس للحصول على قوتهم.
ومع اشتداد القصف، تكررت عمليات النزوح الجماعي؛ لم يعد السكان قادرين على الحفاظ على ما جمعوه من طعام، إذ كان القصف يُجبرهم على ترك كل شيء للنجاة بأرواحهم.
تقول هدى المصري، التي نزحت مبكرًا من بيت حانون إلى غزة: “تركنا كل شيء وهربنا. قصفوا المنزل المجاور لنا. كنا قد اشترينا بعض التموين، لكن الأولوية كانت أن أُنقذ أطفالي الأربعة وأبقى معهم على قيد الحياة.”
بين قصفٍ ونزوح، كان الوقت يمضي ببطء شديد، وثقلٌ من نوع آخر يطغى على كل دقيقة. بحلول نوفمبر 2023، بدأت الأسواق والمحلات تفرغ تمامًا، ولم تدخل أي إمدادات جديدة؛ كان الشمال أشد قسوة، حيث لقي الآلاف حتفهم جوعًا بعد أن عزلت قوات الاحتلال مدينة غزة عن وسط القطاع.
أتت الهدنة الإنسانية في أواخر نوفمبر كاستراحة مؤقتة تنفس فيها الأهالي القليل من الأمل، لكن كمية المساعدات كانت محدودة ولفترة قصيرة. وبعدها، وفي بداية ديسمبر، دخل الشمال في مرحلة أشد ضراوة، إذ لم يعد هناك أي طعام متوفر.
يروي محمود علوش: “فقدنا كل شيء. لم يعد هناك طحين أو معلبات، كنت أخرج من بيتي وأجوب الشوارع، وأعود بلا شيء. في هذه الأيام كنا نجمع الأعشاب من الأرض، مثل الخبيزة والرجلة والحميض، وأكلنا علف الحيوانات بعد طحنه وتحويله إلى أرغفة جافة، بلا طعم أو رائحة، لكنها تُبقينا على قيد الحياة.”
ومع مرور الأيام، بدأت الأصوات العالمية تتصاعد محذرة من خطر المجاعة الذي يعصف بغزة، خاصة مع تزايد الوفيات بسبب الجوع، معظمها بين الأطفال وكبار السن الذين لم يتحملوا وطأة الجوع القاسية.
المجاعة .. واقع غير مسبوق
بحسب تقارير الأمم المتحدة، يشكل سكان غزة اليوم 80% من سكان العالم الذين يعانون من المجاعة أو الجوع الكارثي. هذه النسبة غير المسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية تعكس حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها القطاع.
هذه النسبة المروعة تكشف حجم المأساة الإنسانية في غزة، حيث يتصارع مئات الآلاف للبقاء في ظروف توصف بأنها غير إنسانية، مع نقصٍ حاد في كل ما يلزم للحياة، ما بين غذاءٍ ومياه وكهرباء ودواء.
مجازر الطحين .. الموت في سبيل الحياة
حتى عندما تسمح إسرائيل بمرور شاحنات المساعدات، فإنها تحوّل عملية التوزيع إلى كمائن قاتلة. تُستهدف طوابير الجوعى بالقناصة والقذائف. يروي سعيد الريفي، أحد الناجين من “مجزرة الطحين” في شارع الرشيد: “ذهبنا للحصول على الطحين، لكن النيران بدأت تسقط من كل مكان. حصلت على كيس طحين، بينما فقدت صديقي أمامي”.
منهجية الموت البطيء
بعد 13 عامًا على حرب الإبادة، تبدو الصورة واضحة، ما يحدث في غزة ليس مجرد حصار أو تدمير ممنهج، بل هو إستراتيجية تهدف إلى القضاء على مجتمع بأكمله. فالاحتلال الإسرائيلي، من خلال قطع الكهرباء والماء والوقود، وتدمير المنشآت الحيوية، وقتل المواشي وتجريف الأراضي الزراعية، يسعى إلى تدمير حياة الفلسطينيين بكل ما تعنيه الكلمة.
لذلك، لا تأتي مأساة التجويع في غزة بمحض الصدفة، بل هي جزء من استراتيجية متعددة الجوانب أبرزها:
-فرض حصار تعسفي شامل على قطاع غزة، ما مكنها من السيطرة التامة على دخول على المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة، وتقييد كمياتها وأنواعها.
-قطع الكهرباء والمياه والوقود، وتدمير الحياة البشرية والأعيان المدنية المرتبطة بإنتاج وتوزيع وتخزين والغذاء، سواء تلك المرتبطة بالأعمال التجارية أو الخيرية أو المساعدات الإنسانية، وتدمير الخزانات وآبار المياه ومحطات التحلية.
-استهداف شاحنات المساعدات الإنسانية وطواقمها، وحتى جموع المدنيين المجوعين المنتظرين للمساعدات.
-استهداف عناصر الشرطة وتأمين المساعدات لإحداث الفوضى والفلتان وتشويش وصول المساعدات لمستحقيها.
-تدمير المحاصيل وتجريف الأراضي الزراعية، وقتل المواشي والدواجن، واستهداف الصيادين ومعدات الصيد.
-التدمير الواسع النطاق الذي ألحقته بالشوارع وشبكات الاتصال والبنى التحتية اللازمة لحركة المساعدات الإنسانية ووصولها وتوزيعها.
-سياسة إفقار السكان وتدمير مصادر رزقهم، بحيث حتى لو توفرت أحيانا بعض البضائع فإن أغلب المواطنين لا يملكون القدرة على شرائها لعدم توفر السيولة ولارتفاع أسعارها.
اليوم، ومع استمرار الحرب، يضع الفلسطينيون حجارةً على بطونهم، ليس فقط لإسكات جوعهم، بل ليقولوا للعالم أجمع: “نحن هنا، ودماؤنا تسقي شجرة الصمود، وأرواحنا تهتف للحرية.”