الأربعاء 22/يناير/2025

من الموت إلى النجاة .. شهادة حيَّة عن جرائم الاحتلال في غزة

الجمعة 27-ديسمبر-2024

مدارك / هيئة التحرير

تحمل قصص الناجين من الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة حكايات تفوق الخيال، تتجاوز في فظاعتها ما يمكن أن تصوِّره أفلام كبرى الشركات السينمائية. في أحياء القطاع لا يتوقف القصف ومن تحت الركام يعود ناجون من الموت إلى الحياة، ومن براثن الاعتقال والاحتجاز ينتقل شبان من الإذلال إلى الحرية، كل هؤلاء يعيشون مع ذكريات مؤلمة تمنعهم من العودة إلى حياتهم الطبيعية.

يروي “ناجي. ح”، أحد الناجين، شهادته الصادمة. لجأ ناجي إلى مدرسة شمال قطاع غزة بعد أسبوع من بدء الحرب، لكنها لم تكن ملاذًا آمنًا. حاصرت طائرات “كواد كابتر” وقناصة الاحتلال المدرسة، وبدأت بإطلاق النار عشوائيًا. استشهد اثنان من النازحين داخل الصف الذي لجأ إليه، بينما قنص قناصة الاحتلال امرأة جاءت شقيقتها لإنقاذها، فاستشهدت بدورها، وتبعهم طفلها الذي حاول الوصول إليهما.

تحولت المدرسة وفق شهادة “ناجي” إلى ساحة رعب، حيث اقتربت إحدى الدبابات، وحطمت بوابة المدرسة الحديدية، واقتحم الجنود المدرسة والغرف الصفية المكتظة بالنازحين، وفصلوا الرجال عن والنساء والأطفال.

“أسوأ موقف في حياتي، حين جردني الجنود من ملابسي أمام الجميع، كان الأمر محرجًا ومخزيًا جدًا أمام الجميع رجالا ونساء وأطفالا”، يقول “ناجي”.

اقتاد الجنود ناجي و50 آخرين إلى مدرسة أخرى، واستُخدمتهم قوات الاحتلال دروعًا بشرية، وُضعوا على دبابات الاحتلال عراة، وعانوا من الجوع والعطش والبرد القارس لمدة ثلاثة أيام.

بعد ثلاثة أيام من المعاناة، نُقل ناجي إلى معتقل مجهول. يصفه في حديثه إلى مدارك بأنه “لا يصلح حتى لتربية الماشية”. نام مع بقية المعتقلين على فراش رقيق فوق الأسفلت البارد، حيث كانت المجندات يبللن الأرض بالماء في ليالي ديسمبر القارسة. تعرض ناجي للضرب والتعذيب، ولا يزال يخضع للعلاج حتى اليوم.

يقول ناجي إن الجنود ركزوا في تعذيبهم على المفاصل والرأس. ورغم حالته الصحية السيئة، فوجئ بوجود معتقلين آخرين من ذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن.

في المعتقل تحولت القيود البلاستيكية إلى قيود حديدية ثقيلة جدا، تلازم المعتقل حتى في أوقات النوم ليلاً، يقول ناجي إن هذه القيود كانت توقظه إذا ما تحرك، فيما كانوا يتجنبون تناول الطعام القليل الذي يتوفر، خشية الاضطرار للذهاب إلى الحمام بتلك القيود الممنوع فكها حتى في ذلك المكان.

بعد شهرين من الاحتجاز، أُفرج عن ناجي بطريقة مرعبة، حيث تركهم الجنود في منطقة نائية، ليضطروا للسير مسافة طويلة حتى وصلوا إلى الجانب الفلسطيني من معبر كرم أبو سالم شرق رفح. هناك، سارع للاتصال والاطمئنان على زوجته وأطفاله الأربعة الذين بقوا شمال القطاع، بينما بات هو في جنوبه.

يعيش من ذلك الوقت وحده في أحد مخيمات النزوح في مواصي خانيونس، حالماً بلم شمل عائلته واحتضان أطفاله وانتهاء الحرب بأسرع وقت.

قصة ناجي ليست الوحيدة. في نوفمبر الماضي، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقارير عن استخدام الاحتلال المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية، مؤكدة انتهاكه للقوانين الدولية.

وأبرزت الصحيفة تعرض مدنيين فلسطينيين للإجبار على أداء مهام خطيرة من قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، كما وثقت حالات أخرى في الضفة الغربية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي والمواثيق ذات الصلة بقواعد الحروب والنزاعات المسلحة.

الناجون الذين يعيدهم القصف إلى الحياة، يعودون إلى أكوام من الأنقاض في محاولات للبحث عن ذويهم أو ما تبقى من ذكرياتهم. بينما آخرون، بعد أن تحرروا من سجون الاحتلال ينتقلون من أوضاع الإذلال إلى لحظات الحرية، لكنهم يبقون مقيدين في سجون أخرى، سجناء لذكرياتهم. الذين نجوا لا يعيشون حياة طبيعية؛ فكل لحظة تذكرهم بمعاناة لا يمكن نسيانها، وتطرح عليهم أسئلة عميقة حول معنى الحياة بعد كل هذا الدمار.

ومع استمرار الجرائم الصهيونية، يتشبث الفلسطينيون بالأمل في العدالة، وسط خذلان العالم ومؤسساته التي لم تنصفهم. قصة ناجي تبقى شاهدة على جرائم الاحتلال، وتذكيرًا بأن الإنسانية لا تزال تواجه تحديات قاسية، فهل تتحقق العدالة لهذا الجيل؟ وكيف يمكن أن يعود هؤلاء الناجون إلى الحياة التي سلبت منهم؟ تظل هذه الأسئلة تظل عالقة، بينما الواقع يفرض عليهم أن يواجهوا أكثر مما يستطيع العقل البشري تحمله.