مدارك / هيئة التحرير
“شو يعني لحمة”، هاشتاق انطلق من قلب قطاع غزة قبل سنوات، عندما سأل أحد الفنانين خلال مقابلة تلفزيونية طفلًا صغيرًا عن آخر مرة تناول فيها اللحم. كانت إجابة الطفل عفوية وبريئة، لكنها صدمت الجميع: “شو يعني لحمة؟”، لتكون اختصارًا لمعاناة طويلة عاشها بسبب الحصار والفقر.
في ذلك الوقت، كان الهاشتاق ساخرًا واستنكر الكثيرون موقف الفنان، معتبرين أنه يبالغ في توصيف الحال، حيث كانت اللحوم متوفرة في الأسواق رغم ارتفاع أسعارها. لكن اليوم، ومع استمرار الحرب المتواصلة على القطاع، تحول هذا الهاشتاق إلى حقيقة مؤلمة تعكس ندرة الغذاء الأساسي، بما في ذلك اللحوم ومنتجات الألبان، نتيجة سياسة التجويع الممنهجة التي يفرضها الاحتلال على السكان.
سياسة تجويع ممنهجة
تفتقد الأسواق في غزة للكثير من المواد الأساسية الضرورية لحياة السكان، وعلى رأسها اللحوم والألبان ومشتقاتها. هذه الأصناف ليست مجرد رفاهية، بل هي أساسية لتغذية الأطفال والمسنين والمرضى. لكن الحرب الأخيرة أضافت طبقة جديدة من المعاناة إلى الواقع الصعب الذي يعيشه سكان القطاع.
الاحتلال يتلاعب بحركة دخول السلع والبضائع عبر المعابر، ويمنع دخول الإمدادات الغذائية والطبية اللازمة. وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، فإن كمية الإمدادات التي دخلت القطاع خلال الشهرين الأخيرين من الحرب كانت الأدنى منذ سنوات.
تشير الأرقام إلى أنه في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، دخلت غزة 52 شاحنة مساعدات يوميًا فقط، بينما كان القطاع يحتاج إلى أكثر من 500 شاحنة يوميًا قبل الحرب. هذه الفجوة الهائلة بين الحاجة والإمدادات المتوفرة جعلت من الأزمة الإنسانية في غزة كارثة حقيقية.
من السخرية إلى الواقع المؤلم
“كنا نسخر ونقول ‘شو يعني لحمة’، لكننا اليوم نعيشه واقعًا حقيقيًا”، يقول الحاج الستيني أبو مراد، الذي يعاني من مشكلات صحية تفاقمت بسبب نقص التغذية.
في أغسطس 2023، أجرى أبو مراد عملية جراحية لمعالجة غضروف فقرات الظهر. العملية كانت ناجحة، وبدأ بالتعافي تدريجيًا من خلال اتباع نظام غذائي غني بالبروتينات مثل اللحوم والألبان لتقوية عضلاته الضعيفة. لكن مع اندلاع الحرب، اختفت هذه المواد من الأسواق، لتتدهور حالته الصحية مرة أخرى.
يقول أبو مراد بأسى: “كنت أستعيد عافيتي قبل الحرب، لكن الآن لا أستطيع المشي لمسافات قصيرة بسبب ضعف عضلات قدمي الناتج عن نقص التغذية. حتى البيض، الذي كنت أعتمد عليه كبديل للبروتين، أصبح نادرًا ومكلفًا. من يعزني هذه الأيام يهدي لي بيضة!”.
اللحوم.. الغائب الأكبر عن موائد الغزيين
لطالما كان اللحم جزءًا لا يتجزأ من موائد يوم الجمعة لدى العائلات الغزية. رغم صعوبة الأوضاع الاقتصادية، كان الناس يجتمعون حول وجبات تحتوي على اللحوم، سواء كانت طازجة أو مجمدة. لكن اليوم، أصبح هذا الأمر من الماضي.
يسخر الغزيون من واقعهم المرير بعد صلاة الجمعة، حين يسأل أحدهم الآخر عن وجبة اليوم، ليجيب مازحًا: “سأذبح علبة لانشون”. هذه العلبة، التي كانت تُعتبر خيارًا اقتصاديًا في الماضي، أصبحت الآن رفاهية لا يستطيع تحملها الجميع.
معاناة الأسر والأطفال
محمد، أب لأربعة أطفال، رزق بطفله الأخير خلال الشهر الأول من الحرب. يعاني محمد من صعوبة كبيرة في توفير مستلزمات طفله الأساسية مثل الحليب والحفاضات. لكن أكثر ما يؤلمه هو عدم قدرته على تقديم غذاء صحي لطفله كما كان يفعل مع إخوته.
“طفلي هذا لم يحصل على ما حصل عليه إخوته. كنا نقدم لهم البيض والألبان والخضروات، لكنها أصبحت شبه مستحيلة”، يقول محمد بحسرة.
في إحدى المرات، اضطر محمد لشراء بيضة واحدة بـ15 شيكلًا (4 دولارات تقريبًا) ليطعم طفله الصغير. يضيف: “هذا المبلغ كنا نشتري به طبقين كاملين من البيض قبل الحرب، أما الآن، فالبيضة الواحدة أصبحت رفاهية”.
مجاعة حقيقية وشهادات أممية وحقوقية
في منتصف العام الجاري، أعلن عدد من الخبراء الأمميين أن المجاعة تفشت في قطاع غزة. وفاة الأطفال بسبب سوء التغذية والجفاف لم تترك مجالًا للشك بأن القطاع يعيش كارثة إنسانية غير مسبوقة.
أكد الخبراء أن المجاعة امتدت من شمال غزة إلى جنوبها، مشيرين إلى أن الهياكل الصحية والاجتماعية في القطاع قد انهارت بشكل كامل.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دعا المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى إعلان حالة المجاعة رسميًا في غزة، مشددًا على ضرورة فتح ممرات إنسانية فورية لإدخال المساعدات وإنقاذ السكان من الموت جوعًا.
التجويع كسلاح حرب
يؤكد الحقوقي الفلسطيني صلاح عبد العاطي أن الاحتلال يستخدم سياسة التجويع كأداة حرب ضد سكان غزة. وأوضح أن الإمدادات التي دخلت القطاع منذ بداية الحرب لا تغطي سوى 18% من احتياجات السكان.
“سلاح التجويع لا يقل فتكًا عن الصواريخ”، يقول عبد العاطي، مشيرًا إلى أن سوء التغذية تسبب في وفاة أكثر من 600 شخص، بينهم أطفال ونساء وكبار سن.
صمود رغم الجوع
رغم كل هذه الظروف القاسية، يرفض الفلسطينيون في غزة الاستسلام. عبارة “تموت غزة الحرة ولا تأكل بثدييها” أصبحت شعارًا يعبر عن صمودهم وتمسكهم بكرامتهم وهويتهم الوطنية.
الحاج أبو مراد يختتم حديثه بالقول: “مهما كان الجوع والحرمان، لن نركع. نحن هنا باقون، وسنظل نقاوم بكل الطرق الممكنة حتى نستعيد حقوقنا”.