مدارك / هيئة التحرير
من قلب المخيمات الفلسطينية التي تُعبر عن حكايات التهجير والمعاناة، تنبثق قصص نجاح تعكس روح التحدي والإصرار. إحدى هذه الحكايات الملهمة تأتي من مخيم جرش شمال العاصمة الأردنية عمان، حيث تتجسد في قصة إخلاص أبو طعيمة التي نجحت في تحويل خيوط التطريز وألوان الكروشيه إلى لوحات فنية نابضة بالحياة، تحمل هوية وطنية فلسطينية ورسائل تضامن وصمود.
مخيم جرش، الذي أنشئ في أعقاب نكسة حزيران عام 1967، يأوي أكثر من 12 ألف لاجئ، معظمهم نزحوا من قطاع غزة. في هذا المكان الذي يحمل عبق المعاناة وآمال العودة، نثرت إخلاص غبار الإحباط واليأس، وبدأت رحلتها مع الفن من خلال تعلمها الذاتي لفن التطريز والكروشيه عبر الإنترنت.
“بعد إنهاء المرحلة الثانوية، شعرت برغبة قوية في التعبير عن ذاتي والبحث عن شيء يمثلني ويعكس هويتي الفلسطينية” تقول إخلاص في حديثها مع “مدارك”، وتضيف: أثناء تصفحي لوسائل التواصل الاجتماعي، لفتني جمال التطريز الفلسطيني وتقنياته، وقررت أن أتعلمه ذاتيًا. بدأت بصنع لوحات فنية بسيطة لأصدقاء وعائلات في مناسبات مثل حفلات الزفاف والتخرج، ثم تطور عملي تدريجيًا حتى أطلقت مشروعي الخاص في عام 2020.
الأمل يولد من رحم المعاناة
تعاني إخلاص وأهالي مخيم جرش من ظروف اقتصادية واجتماعية قاسية، حيث البطالة المرتفعة وشح الموارد تضيف تحديات إضافية لحياتهم اليومية. ورغم هذه التحديات، تمكنت إخلاص من تحقيق نجاحات متتالية بفضل دعم عائلتها وصديقاتها اللاتي شجعنها على عرض أعمالها الفنية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
من بين المواقف التي تفتخر بها إخلاص، كانت قصة صناعة دمية لطفلة صغيرة من الكروشيه. استغرقت الدمية منها ثلاثة أسابيع من العمل المستمر والدقيق. تقول إخلاص: “كانت تلك واحدة من أصعب التحديات التي واجهتها، لكن رؤية ابتسامة الطفلة وهي تحتضن الدمية أنستني كل التعب. هذا الشعور يعطيني دفعة لمواصلة العمل والإبداع”.
من مخيم جرش إلى العالم العربي
لم تقتصر أعمال إخلاص على المخيم أو حتى داخل الأردن، بل امتدت إلى دول عربية أخرى، مثل الجزائر وغزة. إحدى القصص التي أثرت بها كانت عندما طلبت فتاة جزائرية “تي شيرت” مطرزًا بخيوط إخلاص كهدية لخطيبها، يحمل علم فلسطين ورموز الهوية الوطنية. كما أرسلت لوحة مطرزة من الأردن إلى غزة، تجسد نبض الصداقة والأخوة بين الفلسطينيين في الشتات وأبناء الوطن، متحدية الحدود التي فرضها الاحتلال.
هوية وطنية متجذرة
في صفحة إخلاص على فيسبوك، تظهر بوضوح تمسكها بهويتها الفلسطينية التي لم تفارق أعمالها الفنية. رغم أنها لم ترَ بلدتها “بئر السبع”، إلا أن انتماءها العميق للوطن يتجلى في كل قطعة فنية تصنعها. تقول إخلاص: “التطريز بالنسبة لي ليس مجرد فن، بل هو وسيلة للحفاظ على الهوية الفلسطينية وتأكيد حق العودة”.
من بين الأعمال التي أبدعت فيها، تطريز بذور البطيخ إلى جانب علم فلسطين وخريطة الوطن. تُزين هذه الأعمال منازل اللاجئين وتصبح شاهدًا على التمسك بالحق. بالإضافة إلى ذلك، صنعت إخلاص لوحات تضامنية مع أهل غزة، أبرزها لوحة لرجل ملثم يحتضن خريطة فلسطين، والتي أضافت إليها رموزًا تعبر عن كل مدينة فلسطينية، مثل نابلس بجبل النار، بئر السبع بحياة البداوة، وغزة بشجر الزيتون.
رسائل تضامن تتجاوز الحدود
من خلال رسوماتها وأعمالها الفنية، تسعى إخلاص لنقل رسالة مفادها أن الهوية الفلسطينية لا تعترف بالحدود الجغرافية، بل هي انتماء يمتد عبر الأجيال. تقول: “كل قطعة أصنعها تحمل رسالة حب وتضامن. بالنسبة لي، المقاومة يمكن أن تكون من خلال الإبرة والخيط أو عبر الريشة والقلم”.
إخلاص لا تتوقف عند حدود الإبداع، بل تطمح لأن تصبح مدربة تنشر هذا الفن بين الأجيال الجديدة. تأمل أن تستخدم أعمالها كوسيلة لنشر الحب والسلام وتعزيز وعي الجيل القادم بالقضية الفلسطينية.
لوحات تروي حكاية وطن
في كل لوحة تصنعها إخلاص، هناك حكاية فلسطينية تُحكى بخيوط الإبرة أو بقلم الرصاص. تقول: “أرى أن لكل شخص دوره في دعم القضية الفلسطينية، ولوحتي الأولى التي صنعتها أثناء الحرب على غزة كانت لرجل ملثم يحتضن خريطة الوطن، تعبيرًا عن الحماية والصمود”.
من خلال تطريز الألوان الفلسطينية ورسم رموز المدن، تسعى إخلاص لترسيخ الهوية الوطنية بين اللاجئين والمجتمعات العربية، مؤكدة أن النضال من أجل فلسطين لا يتوقف عند حمل السلاح، بل يمتد إلى كل وسيلة تعبر عن التمسك بالحق.
إرث من الأمل والصمود
إخلاص أبو طعيمة، بفنها وإصرارها، ليست مجرد فنانة، بل مثال حي على أن الأمل يمكن أن ينبعث حتى من أعقد الظروف. قصتها تلهم الأجيال الشابة وتثبت أن التمسك بالهوية الفلسطينية يمكن أن يتحقق بالإبداع والعمل الدؤوب، مهما كانت التحديات.