الأربعاء 22/يناير/2025

سجون إسرائيل .. تاريخ أسود من التعذيب ضد الفلسطينيين

الأحد 12-يناير-2025

مدارك / هيئة التحرير

في عتمة الزنازين، حيث يغيب النور ويُدفن الأمل، تعيش الأرواح الفلسطينية المحاصرة في قبور أعدّت سلفًا للمعاناة. إنها ليست مجرد أماكن احتجاز، بل أنظمة ممنهجة للتعذيب والإذلال، يُحرم فيها الأسرى من أبسط حقوقهم الإنسانية، ويُستخدم القيد كوسيلة لتدمير النفس قبل الجسد. سجون إسرائيل ليست مجرد مواقع اعتقال، بل جزء من سياسة طويلة الأمد، تعكس عقيدة قوامها الانتقام والإبادة.

بعد إفادات من عشرات المعتقلين المفرج عنهم، خرج المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان باستنتاج أن التعذيب في سجون الاحتلال لا يقتصر على الممارسات من الجنود؛ بل إن السجون نفسها صممت كنظام لتعذيب الأسرى الفلسطينيين وسلب كرامتهم الإنسانية.

المثال الصارخ على هذا الحال، هو السجن الجديد الذي افتتحه الاحتلال تحت الأرض بمدينة الرملة، حيث أظهرت المشاهد المصوّرة المعتقلين مكبلين داخل زنازين معزولة، تغيب عنها أشعة الشمس وأدنى مقومات الحياة الإنسانية.

بحسب تقارير المرصد، يحتجز الأسرى الفلسطينيون في زنازين ضيقة مغلقة ببوابات حديدية، دون مراتب أو أغطية، ويُجبرون على البقاء مقيدين لمدة تصل إلى 23 ساعة يوميًا. تُمنح لهم فرصة وحيدة للخروج إلى فناء صغير مغلق بالكامل، لا تصل إليه أشعة الشمس، ما يجعل تلك الأماكن أشبه بـ”قبور الأحياء”.

تدعي إسرائيل استخدام هذا السجن للمعتقلين الذين تصفهم بأنهم “الأكثر خطورة”، مثل أعضاء النخبة التابعة لحماس أو حزب الله، إلا أن المنظمات الحقوقية تشدّد على أن هذه الادعاءات لا تبرر انتهاك القوانين الدولية، التي تُلزم معاملة جميع الأسرى معاملة إنسانية.

المرصد أشار إلى أن الادعاءات الإسرائيلية غالبًا ما تُستخدم كغطاء للتعذيب والانتقام، حيث تعرض آلاف الأسرى لتهم مماثلة دون أدلة قاطعة.

ووفق شهادات معتقلين مفرج عنهم، فإن قوات الاحتلال كانت تتهمهم بأنهاء أعضاء في النخبة رغم أنهم مدنيون وضبط مخابرات الاحتلال بعرفون ذلك، لكنهم يستخدمون هذه الحجة لتبرير شكلي لإخضاعهم لتعذيب شديد.

كعادته لم يفوت وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الفرصة خلال افتتاح السجن، الفرصة لدوس القوانين، بالقول إن هذا مكان الأسرى تحت الأرض وأنهم لن يروا الشمس، ليضاف إلى سجل أسود من التصريحات والقرارات التي تحرم المعتقلين من أي حياة إنسانية كريمة.

هذه التصريحات – وفق المرصد الأورومتوسطي- تعكس سياسة رسمية إسرائيلية للتحريض على الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، بما في ذلك الأسرى.

ومنذ السابع من أكتوبر 2023، استشهد ما لا يقل عن 60 فلسطينيًّا أغلبهم من قطاع غزة؛ نتيجة التعذيب داخل السجون الإسرائيلية، وسط مؤشرات على وجود ضحايا آخرين تُخفي إسرائيل مصيرهم.

تُظهر الشهادات الموثقة للمعتقلين المفرج عنهم أن السجون الإسرائيلية مصممة لتكون أدوات للعقاب الجماعي. في سجن قاعدة “سديه تيمان” العسكرية، احتُجز الأسرى في أماكن مكشوفة ومحاطة بالأسلاك الشائكة، أو داخل زنازين ضيقة سيئة التهوية، حيث تعمد قوات الاحتلال قطع المياه وحرمانهم من أبسط المرافق.

“أهلًا بكم في جهنم” هذا هو عنوان تقرير لمنظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية، تناول مُعاملة الأسرى الفلسطينيّين وحبسهم في ظروف لا إنسانيّة في السّجون الإسرائيليّة منذ 7 تشرين الأول 2023. اعتمد التقرير على إفادات أدلى بها 55 فلسطينيًا وفلسطينية، ممّن احتُجزوا في السّجون ومرافق الحبس الإسرائيليّة خلال هذه الفترة. الغالبية الساحقة من الشهود لم يُحاكموا.

تبيّن إفادات الأسرى نتائج عمليّة سريعة تحوّل في إطارها أكثر من اثني عشر من مرافق الاعتقال الإسرائيليّة، مدنيّة وعسكريّة، إلى شبكة معسكرات هدفها الأساسيّ التنكيل بالبشر المحتجزين داخلها. كلّ من يدخل أبواب هذا الحيّز، محكوم بأشدّ الألم والمُعاناة المتعمّدين وبلا توقّف، حيز يشغل عمليّاً وظيفة مُعسكر تعذيب.

يروي فؤاد حسن من سكان قُصرة في نابلس “نقلونا إلى “مجيدو” وعندما نزلنا من الحافلة، قال لنا أحد السجانين: “أهلًا بكم في جهنم”.

أما فراس حسان فيتذكر كيف اقتاده جنود الاحتلال إلى المعتقل في “عتصيون”. يقول: هناك فتّشوني عارياً وسألني مُسعف عن وضعي الصحّي ثمّ أدخلوني إلى غرفة اعتقال مع ستّة معتقلين آخرين. كانت الغرفة صغيرة فيها مرحاض. وكانت فيها رائحة رُطوبة قويّة. بعد ذلك نقلوني إلى سجن “عوفر” مع معتقلين آخرين وفتّشونا ونحن عُراة، مرّة أخرى. كان انطباعي أنّ ذلك لم يكن لضرورات أمنيّة وإنّما لإهانتنا.

فراس حسان

كانوا يقفون عند الباب يركلون ويضربون بهراواتهم كلّ أسير يخرج من الغرفة. عندما حان دوري لأخرج ركل أحد العناصر وجهي وأنا منحنٍ

أما نبيلة مقداد فتتذكر بأسى محطات قاسية من اعتقالها من قطاع غزة: أنزلونا من سيّارة الجيب ودفعتني إحدى الجنديّات فسقطتُ على الأرض. شعرتُ بأنّني أنزف تحت عيني اليسرى، لكنّ بعض الجنود حملوني واقتادوني إلى غرفة في منشأة اعتقال. أمروني بخلع ثيابي بالكامل. قامت بعض الجنديّات بفحصي بجهاز إلكترونيّ وأعطوني “ترينينغ” رماديّ اللون لارتدائه.

تضيف: بعد ذلك أخرجني الجنود مع عدّة نساء أخريات إلى الساحة وأيدينا مقيّدة وأعيننا معصوبة، وتركونا على هذه الحال. كان الطقس باردًا جدًّا في الخارج، وكانوا يصرخون ويضحكون علينا عندما رأوا أنّنا نعاني. أدخلونا إلى قفص لا يحتوي إلّا على فرشة صغيرة وبطانيّة رفيعة لم تكن كافية لنا جميعًا.

نبيلة مقداد في أحد مراكز النزوح

تتابع: طلبنا من الجنود المزيد من البطانيّات لكنّهم رفضوا. بقينا هناك على هذه الحال ثمانية أيّام، دون طعام تقريبًا. في الليل حصلنا على كسرة خبز جافّة مع بعض اللبنة وتفّاحة. كان علينا أن نأكل وأيدينا مقيّدة، وهكذا ذهبنا إلى المرحاض أيضًا. كان ذلك مروّعًا. في إحدى المرّات سكب أحد الجنود اللبنة على الأرض وشتمنا. في الليل بالكاد سمح لنا الجنود بالنوم. شغّلوا موسيقى صاخبة، وخبطّوا على الأبواب الحديديّة، وصرخوا علينا وشتمونا.

وفق المرصد الأورومتوسطي، هناك ما لا يقل عن 30 سجنًا ومركز توقيف إسرائيلي معروف، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من معسكرات الاعتقال التي أُنشئت خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، ومن بين هذه المنشآت مركز الاحتجاز في قاعدة سديه تيمان العسكرية، والذي أصبح رمزًا لتعذيب وقتل الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، على نحو مشابه لسجني “أبو غريب” و”غوانتانامو” اللذين اشتهرا بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

لا تتوقف المنظمات الحقوقية عن مطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته القانونية، والضغط على إسرائيل لإجبارها على وقف الجرائم ضد الأسرى الفلسطينيين، بما في ذلك جريمة الاختفاء القسري، في حين تواصل قوات الاحتلال نهجها دون اعتبار لكل العالم.

سجون إسرائيل ليست مجرد منشآت احتجاز، بل هي شواهد على معاناة مستمرة وانتهاكات ممنهجة تهدف إلى تدمير الكرامة الإنسانية للشعب الفلسطيني. ومع استمرار هذه الجرائم، يبقى الصوت الفلسطيني ينادي لإنصاف الضحايا ووضع حدٍّ لآلة القمع التي تحصد الأرواح وتُمعن في سحق إنسانية الأسرى خلف الجدران.