ياسر أبو هين
على وقع أصوات الأطفال المرتفعة في الخيمة المجاورة لخيمتي، التي أصبحت جزءًا من عالمي الجديد، أصحو كل صباح مستمعًا – وأحيانًا مشاركًا – فيما تحاول معلمتهم تلقينهم إياه من أحرف وكلمات اللغة الإنجليزية بلكنتها الأصلية، في مشهد يعكس ملامح الحياة وسط الركام.
لم أستطع مقاومة فضولي أمام هذا المشهد المتكرر، ولم أتجاهل ذلك النداء الخفي المنبعث من أصواتهم، تلك الحيوية التي بدت وكأنها تبعث الحياة في صباحاتي الموحشة، قادتني أصواتهم المليئة بالتفاعل إلى زيارة الخيمة التعليمية في أحد مخيمات النزوح جنوب قطاع غزة، حيث يُحشر أكثر من مليون شخص في أقل من 10 % من مساحة القطاع، هناك عرفت أن “القلعة التعليمية” ليست إلا مبادرة فردية أطلقتها معلمة، هي في الأصل زوجة شهيد. وجوه الأطفال تحكي حكايات الحرب، أجسادهم الهزيلة وحالة الحرمان الطويلة تقف شاهدة على أكثر من خمسة عشر شهرًا من الألم، ومع ذلك، لم تنطفئ إرادتهم، وهم يجلسون حفاةً على الأرض، يمسكون بشغف حروفًا وكلمات ربما تكون مفتاحًا لحياة جديدة.
تلك الإرادة تعيد الأمل بأن غزة، برغم كل ما فيها، تظل زاخرة بالعطاء المتجدد، فهؤلاء الأطفال، الذين حرمتهم الحرب من عامهم الدراسي الثاني على التوالي، يقفون في مواجهة مصيرٍ بائس، يشبه مصير نحو ثلاثة عشر ألف طالب مثلهم، أبادتهم آلة الحرب الإسرائيلية، ليس فقط بفرصهم في التعليم وتجربة الحياة، بل بأرواحهم.
تشكّل إرادة الحياة التي يحملها أهل غزة دافعًا لتحويل الخيام الممزقة إلى منصات أمل وآفاق جديدة
وسط هذه المآسي، تظهر غزة بأهلها نموذجًا ملهمًا للصمود، معلمتهم، التي تسعى لتزويدهم بأدوات ومهارات العلم رغم حرمانها من شريك حياتها، ليست إلا واحدة من نحو 12 ألف أرملة في غزة، ومع ذلك، تشكّل إرادة الحياة التي يحملها أهل غزة دافعًا لتحويل الخيام الممزقة إلى منصات أمل وآفاق جديدة.
في الأذهان، الخيمة ترمز للشتات والتشرد، لكنها في غزة وإن كانت كذلك، تحمل معان أخرى، “الغزازوة”، كما يطلقون على أنفسهم، جعلوا من تلك الخيام مراكز حياة. هنا تُقام الفصول الدراسية عوضا عن نحو 500 مدرسة وجامعة دمرها الاحتلال، وهناك تُعقد جلسات المقاهي الشعبية لمتابعة مباريات كرة القدم في محاكاة ولو من بعيد لمئات من تلك القهاوي والاستراحات التي دُمرت وكان يتنفس بها” كورنيش” غزة وكنت أحد عشاق السهر فيها.
من الخيام تنطلق زفات عرسان الحرب، وفيها تُؤسس عائلات جديدة، يكملها قدوم المواليد الجدد.. الإحصاءات تشير إلى نسبة لافتة لأعداد المواليد، وقد شهد العام الماضي قدوم 37613 مولودا جديدا، وكأنها رسالة صمود تقول: “تقتلوننا ونولد من جديد”.
يومًا ما، ستصبح تجربة الخيام جزءًا من ذاكرة الأجيال، وتحكي قصة إرادة شعب لم تنكسر. ستكون شاهدًا على حياة لم تُختصر في الألم، بل شكلت شهادة حيّة على صمود غزة في وجه القهر والتخاذل
بين الخيام، لم يترك أهل غزة أي مساحة فارغة دون أن يزرعوها. الحقول الصغيرة بين الخيام تحوّلت إلى مزارع “منزلية” تضم الفلفل، والبقدونس، والجرجير، والبصل الأخضر، وحتى أزهار الزينة، تجد النساء منهمكات في رعاية تلك المزروعات، في مشهد يضج بالحياة وسط الحصار والوجع.
فيما أراقبهن، أتذكر والدتي – رحمها الله – التي رحلت إلى بارئها قبل الحرب بأسبوع، كانت تمتهن زراعة الأشتال في أحواض صنعتها بنفسها، كنّا في الصغر نجتمع حولها مساءً لنساعدها في تجهيز تلك الأشتال لبيعها صباحا، كأننا نعدّ حقولًا صغيرة للحياة.
يومًا ما، ستصبح تجربة الخيام جزءًا من ذاكرة الأجيال، وتحكي قصة إرادة شعب لم تنكسر. ستكون شاهدًا على حياة لم تُختصر في الألم، بل شكلت شهادة حيّة على صمود غزة في وجه القهر والتخاذل، ورغم الجراح، يواصل أهل غزة مسيرتهم، بعزيمة لا تنكسر، منتظرين غدًا أفضل، يأملون أن يكون أقرب مما يتخيلونه