الأربعاء 22/يناير/2025

إبادة المدن .. استراتيجية إسرائيلية لإعادة تشكيل غزة

الأربعاء 22-يناير-2025

مدارك / هيئة التحرير
على مد النظر يمكن أن تشاهد أكوام الركام بلا أثر لأي مبنى أو منزل في مخيم جباليا والعديد من بلدات قطاع غزة، إذ يعمل جيش الاحتلال الإسرائيلي بمنهجية واضحة لإبادة المدن بالتوازي مع إبادته للفلسطينيين.

ويشهد قطاع غزة منذ قرابة عام ونصف إبادة إسرائيليّة ممنهجة لمدنه وأحيائه، تمثل تجسيدًا واضحًا لجريمة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. منظمات حقوقية فلسطينية ودولية وثّقت هذه الجرائم التي لم تقتصر على القتل الجماعي وتدمير مقومات الحياة، بل امتدت إلى إبادة النسيج المعماري والحضاري للمدن الفلسطينية.

في تقرير للمرصد الأورومتوسطي أشار إلى عملية الإبادة التي ينفذها الاحتلال تتجاوز التدمير المادي لتطال النسيج الاجتماعي والثقافي. فبحسب المرصد، تشمل هذه السياسة طمس الهوية الوطنية والثقافية للفلسطينيين، ومنع عودتهم إلى أراضيهم، وفرض واقع ديموغرافي جديد يخدم الأجندة الاستيطانية. ويدلل التقرير على ذلك بالدمار الواسع الذي طال مناطق شمال قطاع غزة وامتد إلى رفح وخان يونس جنوبي القطاع، حيث أزيلت بلدات بأكملها من الخارطة.

أوسع عمليات التدمير الشاملة جرت مؤخرًا في شمال قطاع غزة، حيث تسعى إسرائيل إلى تفريغ المحافظة من جميع سكانها وفصلها بالكامل عن محافظة غزة. وتظهر المعطيات التي أبلغت عنها عائلات هجرت قسرًا أن جيش الاحتلال الإسرائيلي ينتهج بشكل واسع منذ هجومه البري الثالث في المنطقة منذ 5 أكتوبر/تشرين أول الماضي، عمليات محو شامل وتدمير كامل للمنازل والأحياء السكنية والبنى التحتية.

ويظهر تحليل مقاطع فيديو وصور نشرها جنود إسرائيليون ومنصات إعلامية إسرائيلية حجم الدمار الهائل الذي ألحقه جيش الاحتلال الإسرائيلي بشمال قطاع غزة، إذ أظهرت مقاطع تصوير جوية ممتدة مخيم جباليا مدمرًا بالكامل، حيث بات كل ما فيه عبارة عن أكوام من الركام وشوارع مدمرة بالكامل. ويؤكد الإعلامي محمد أبو قمر أن بلوكات 4 و5 و2، 3 ومناطق العلمي، والهوجا، والفالوجا والتوام وأطراف الصفطاوي الشمالية مسحت بالكامل، وذات الأمر ينطبق على باقي الأحياء في بيت لاهيا وبيت حانون.

التقرير الحقوقي يؤكد أن هذا السلوك يمثل جزءًا من سياسة إبادة المدن (الإبادة الحضارية) التي تنفذها إسرائيل، والتي تستهدف ليس فقط السكان الفلسطينيين وممتلكاتهم كأفراد، بل أيضًا محو وجودهم الثقافي والحضاري، وإزالة أي أثر مادي أو تاريخي يدل على ارتباطهم بأرضهم، وبالتالي إضعاف قدرتهم على البقاء على قيد الحياة في مناطقهم، وصولًا إلى القضاء على وجودهم الفعلي والمجتمعي فيها، مقابل تسهيل إقامة مشاريع استيطانية غير قانونية في شمال غزة.

يُشار إلى أن هذه المشاريع يُروّج لها علنًا وزراء ومسؤولون في الحكومة الإسرائيلية وأعضاء في الكنيست ومنظمات استيطانية، في إطار محاولات فرض واقع ديموغرافي وجغرافي جديد، يُستبدل فيه السكان الفلسطينيون الأصليون بمستوطنين إسرائيليين.

ويعتمد جيش الاحتلال الإسرائيلي على وسائل متعددة لنسف الأحياء السكنية والمرافق العامة، تشمل النسف بالمتفجرات والقصف الجوي المكثف، وتجريف الأراضي. هذه العمليات أفرزت مشهدًا مروعًا للدمار، أبرزته مقاطع مصورة أظهرت مناطق مثل مخيم جباليا وقد تحولت إلى أكوام من الركام.

أحد سكان مخيم جباليا، الذي دمر منزله جراء روبوت متفجر، يقول: “لم يتبقَ شيء. منازلنا تحولت إلى ركام متداخل، عندما شاهدت المنطقة لم أحدد معالم منزلي عن منازل جيراني لأنها كومة من الركام المتداخل، لقد دفنوا عمراننا ومستقبلنا تحت الأنقاض”. هذه الشهادة تعكس واقعًا يعيشه مليونا فلسطيني تحت الحصار والقصف اليومي.

منهجية التدمير الشامل لأحياء وبلدات كاملة لم تقتصر على شمال قطاع غزة، بل طالت أغلب مناطق قطاع غزة، فالمعطيات الأولية التي أمكن الحصول عليها من رفح جنوبي القطاع سواء من سكان في المنطقة أو وصور الأقمار الصناعية ومقاطع فيديو نشرها جنود إسرائيليون تظهر أن المحافظة تم محوها بصورة شبه تامة.

كما أن العديد من أحياء خان يونس جنوبي القطاع مسحت بالكامل، وكذلك العديد من المربعات السكنية في حيي الشجاعية والزيتون جنوب غزة وشرقها، وكذلك المنطقة الواقعة على امتداد محور نتساريم من الجنوب والشمال. ويقول السكان وحقوقيون: إن هذا التدمير الإسرائيلي للأحياء السكنية الذي شمل المنازل والشوارع والبنى التحتية والمنشآت التعليمية والشرطية والخدماتية والاقتصادية، يجعل من شبه المستحيل عودة الفلسطينيين للعيش في تلك المناطق.

لا تقتصر جرائم الاحتلال على استهداف المباني والمساكن، بل تمتد لتشمل المعالم الأثرية والحضارية. ووفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة؛ فإن الاحتلال تعمد استهداف المساجد والكنائس والمواقع الأثرية والمراكز الثقافية والجامعات، ما يمثل محاولة ممنهجة لمحو الذاكرة الثقافية للشعب الفلسطيني. وهذا ما دفع رئيس المرصد الأورمتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده لوصف ما يجري بأنه ليس مجرد تدمير لمعالم غزة، بل محو شامل لتاريخها وهويتها الحضارية.

منظمة اليونسكو وصفت المواقع التراثية في غزة بأنها “جزء من الإرث الإنساني”، ما يفرض على المجتمع الدولي مسؤولية حمايتها من التدمير. ومع ذلك، يبقى التحرك الدولي خجولًا وعاجزًا أمام جرائم الاحتلال التي لا تتوقف عن القتل والتدمير.

وفقًا لتقرير الأورومتوسطي، فإن تدمير الأحياء السكنية والبنية التحتية لا يحمل أي ضرورة عسكرية، بل يهدف إلى محو الأثر الفلسطيني المادي والحضاري. هذه الجرائم تمثل انتهاكًا صريحًا لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، التي تحظر تدمير الممتلكات المدنية إلا في حالات الضرورة العسكرية القصوى.

ولم يتردد الخبير الحقوقي أحمد أبو زهري في التأكيد أن ما يجري في غزة يتعدى كونه نزاعًا مسلحًا؛ بل إنه إبادة ممنهجة تستهدف وجود الفلسطينيين في أرضهم، مؤكدا أن هذا السلوك يندرج تحت الجرائم الدولية التي تستوجب محاسبة ومساءلة دولية.

تتصاعد الدعوات الدولية لمحاسبة مسؤولي الاحتلال عن هذه الجرائم، بما في ذلك تنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة بحق قادة الاحتلال وإصدار المزيد من هذه المذكرات وتوسيع لائحة الاتهام لتشمل الجريمة الأخطر الإبادة الجماعية، على جانب المطالبة بضرورة وقف أشكال الدعم العسكري والسياسي المقدم لإسرائيل، خاصة من الدول المتورطة بشكل مباشر في تمويل أو تسهيل هذه الجرائم.

وفيما يصمم الفلسطينيون على أن هذا التدمير لن يفصلهم عن مدنهم وبلداتهم وأنهما سيعيدون تعميرها حجرًا حجرًا، يبقى السؤال هل يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته في وقف جرائم الاحتلال؟ وهل تلقى دعوات محاسبة إسرائيل صدى أمام عجز دولي مستمر؟ أم ستبقى غزة وحيدة في مواجهة آلة التدمير الإسرائيلية؟