الأحد 02/فبراير/2025

اليوم التالي للحرب على غزة وتأثيراته فلسطينيًّا

السبت 1-فبراير-2025

مدار/ خاص / د. إياد إبراهيم القرا

كشفت الحرب الأخيرة على قطاع غزة عن تحديات إنسانية وسياسية معقدة أدت إلى تفاقم الأزمات الداخلية والخارجية، مما فرض واقعًا يتطلب استجابة شاملة ومنهجية لإدارة التداعيات، فقد أظهرت الحرب حجم الانقسام الداخلي الفلسطيني، حيث برز غياب رؤية موحدة لمواجهة الأزمات، الأمر الذي عزز الحاجة إلى جهود حثيثة لتحقيق المصالحة الوطنية من خلال تشكيل حكومة شاملة، وإطلاق حوار وطني جاد، وضمان توزيع عادل للمساعدات لتعزيز الثقة بين الفصائل الفلسطينية.

على المستوى الإنساني، أدى الدمار واسع النطاق إلى تدمير مئات الآلاف من الوحدات السكنية ونزوح الملايين، مما فاقم الأزمات المتعلقة بالغذاء والمياه والكهرباء والخدمات الصحية. وللخروج من هذا المأزق، تبرز حلول متعددة، أبرزها تطوير مشاريع بنية تحتية مستدامة، مثل بناء محطات تحلية المياه وتحسين الإنتاج الزراعي المحلي، إلى جانب دعم دولي يضمن استقرار الخدمات الأساسية.

أما على مستوى إدارة القطاع، فقد طُرحت عدة سيناريوهات تتراوح بين استمرار الوضع القائم بإدارة غير مباشرة من قبل حماس، أو تشكيل لجنة إسناد بإشراف مصري ودعم دولي، أو عودة السلطة الفلسطينية إلى إدارة القطاع، أو تبني إدارة دولية تركز على إعادة الإعمار، أو حتى انسحاب حماس بالكامل من المشهد وتسليم الإدارة إلى جهات دولية. ورغم تعدد السيناريوهات، يبدو الحل الأكثر واقعية هو السيناريو المدمج، الذي يجمع بين نموذج لجنة الإسناد والإدارة المحلية، على غرار تجربة عام 2017، لما يتيحه من توازن بين الاستقرار وإعادة الإعمار بدعم دولي.

بناءً على ذلك، تبرز جملة من التوصيات التي من شأنها تسريع التعافي والاستقرار، وعلى رأسها تبني رؤية وطنية موحدة تحقق المصالح العليا للفلسطينيين، وتعزيز الشفافية لضمان الاستخدام الفعّال للمساعدات، وإشراك المجتمع الدولي في مشاريع تنموية مستدامة تعزز قدرة القطاع على مواجهة الأزمات مستقبلاً. إن استشراف هذه الحلول يتطلب إرادة سياسية واضحة وتعاونًا إقليميًا ودوليًا يضمن تنفيذها بشكل عملي ومستدام.

مع بدء المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، التي دخلت حيز التنفيذ منذ أسابيع قليلة، تتاح فرصة لمعالجة الملفات العالقة والإسراع في تقديم الدعم الإنساني العاجل لتعزيز صمود الفلسطينيين. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة في تقديم المساعدات الضرورية للنازحين العائدين إلى مناطقهم في شمال قطاع غزة، حيث يحتاجون إلى دعم مباشر يخفف من معاناتهم. وفي الوقت ذاته، لا بد من تسريع عملية إعادة تأهيل البنية التحتية، لا سيما شبكات الطرق والمياه والكهرباء، بهدف الحد من تداعيات الحرب الكارثية على القطاع، وضمان استعادة الحياة الطبيعية في أقرب وقت ممكن.

خلفت الحرب الأطول مع الاحتلال الإسرائيلي آثارًا مدمرة على قطاع غزة، حيث تضررت القطاعات الحيوية، من صحة وتعليم وبنية تحتية، فضلًا عن نزوح قرابة مليوني فلسطيني وتدمير 305,000 وحدة سكنية، ما يجعل إعادة الإعمار أولوية قصوى. تعاني غزة من أزمات مركبة بسبب الحصار والحروب المتكررة، الأمر الذي يستوجب إعادة التفكير في إدارة القطاع لتحقيق استقرار سياسي وإنساني. وفي ظل انقسامات سياسية تعيق الجهود، تبرز الحاجة إلى توافق داخلي فلسطيني لمعالجة التحديات الكبرى، مثل إعادة الإعمار وتوفير الخدمات الأساسية، إضافةً إلى دور المجتمع الدولي في تقديم الدعم المالي وضمان شفافية الإدارة.

من جانب آخر، تركت الحرب آثارًا عميقة على الاحتلال الإسرائيلي، إذ تواجه مكوناته الحكومية والمجتمعية تداعيات يوم السابع من أكتوبر، مما يساهم في إعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي في المنطقة.

تعرضت البنية التحتية في غزة لأضرار جسيمة شملت تدمير الطرق، وتعطل شبكات الكهرباء، وتدهور خدمات البلدية، مما أثر على الحياة اليومية للسكان وأعاق جهود إعادة الإعمار. فقد تضررت 40% من شبكات الطرق الرئيسية، مما تسبب في تعطيل حركة التنقل ونقل الإمدادات الأساسية. كما تعرضت شبكات الكهرباء إلى دمار واسع طال 60% من خطوط التوزيع والمحولات، مما أدى إلى أزمة في توفير الكهرباء للخدمات الحيوية، مثل المستشفيات ومحطات المياه. من ناحية أخرى، تأثرت خدمات البلدية بشدة، حيث أصبح 70% من البلديات غير قادرة على العمل بكامل طاقتها بسبب نقص الوقود والتمويل، مما أدى إلى تراكم النفايات في الشوارع وزيادة المخاطر البيئية والصحية.

في ظل هذه الأوضاع، تبرز الحاجة إلى حلول عاجلة لإعادة تأهيل البنية التحتية. يتطلب ذلك إطلاق مشاريع طوارئ لترميم الطرق الرئيسية، إلى جانب تخصيص تمويل دولي لإعادة بناء الجسور وشبكات النقل الحيوية. كما أن استخدام تقنيات بناء حديثة ومستدامة وإنشاء خطوط بديلة للطوارئ في المناطق الأكثر تضررًا سيسهم في تعزيز صمود البنية التحتية أمام الأزمات المستقبلية. أما على صعيد الكهرباء، فإن تعزيز مشاريع الطاقة الشمسية يمثل خيارًا مستدامًا لتوفير الإنارة العامة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، إلى جانب توفير معدات جديدة مثل المحولات وأسلاك التوصيل لإعادة تشغيل الشبكات المتضررة. إضافةً إلى ذلك، فإن دعم البلديات بالوقود والمعدات اللازمة لإدارة النفايات سيعيد تشغيل خدمات النظافة ويقلل من المخاطر البيئية.

من المتوقع أن تسهم هذه الجهود في تحسين شبكة الطرق وتسريع استعادة حركة التنقل والنقل التجاري، فضلًا عن تعزيز الأمان عبر توفير إضاءة الطرق وتحسين الخدمات الكهربائية. كما أن دعم البلديات وإعادة تشغيل خدمات النظافة سيعزز ثقة السكان في المؤسسات العامة، ويقلل من المخاطر الصحية والبيئية الناجمة عن تراكم النفايات.

تفاقمت أزمة الغذاء في غزة بشكل حاد نتيجة تدمير مستودعات الغذاء والمزارع الرئيسية، مما أدى إلى اضطراب سلاسل التوريد وزيادة اعتماد السكان على المساعدات الإنسانية، حيث يعتمد 64% من سكان القطاع على المساعدات وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي. كما تسبب نقص الوقود في تقليص عمل المخابز، مما أدى إلى أزمة في توفير الخبز، وهو الغذاء الأساسي للسكان، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة للتحذير من أن الوضع الغذائي في غزة “على حافة الكارثة”.

لمواجهة هذه الأزمة، هناك حاجة إلى إنشاء مراكز توزيع غذاء طارئة تحت إشراف دولي لضمان عدالة وصول المساعدات إلى جميع الفئات المحتاجة، إلى جانب تحسين إدارة الإغاثة لضمان سرعة وصول المواد الغذائية. كما يمكن تعزيز الإنتاج المحلي من خلال دعم الزراعة عبر توفير البذور والأسمدة والمدخلات الزراعية للمزارعين، فضلًا عن تشجيع الزراعة الحضرية والمجتمعية لتعزيز الاكتفاء الذاتي. علاوة على ذلك، يمكن للمؤسسات الدولية، مثل الأونروا وبرنامج الأغذية العالمي، توفير برامج مستدامة لدعم المزارعين وتدريبهم على تقنيات زراعية حديثة لتحسين الإنتاج.

من المتوقع أن تساهم هذه الجهود في تحسين الأمن الغذائي على المديين القصير والطويل، وتقليل اعتماد السكان على المساعدات الخارجية، مما يسهم في تحقيق استقرار نسبي في الوضع الغذائي رغم التحديات المستمرة للحصار والأزمات المتكررة.

يواجه قطاع المياه في غزة أزمة حادة، حيث تشير الدراسات إلى أن 97% من المياه غير صالحة للشرب بسبب تلوث الخزانات الجوفية وتدمير البنية التحتية، مما أدى إلى انتشار الأمراض المنقولة بالمياه، مثل الإسهال وأمراض الكلى، خاصة بين الأطفال. وقد زادت الحرب الأخيرة من تفاقم الأزمة من خلال تدمير شبكات التوزيع، مما حرم آلاف الأسر من الوصول إلى مياه نظيفة.

تتطلب معالجة هذه الأزمة استثمارات ضخمة تُقدّر بـ 500 مليون دولار لإصلاح البنية التحتية للمياه، تشمل إعادة بناء شبكات التوزيع، وإنشاء محطات تحلية تلبي احتياجات السكان، وإصلاح أنظمة الصرف الصحي لمنع المزيد من التلوث. كما أن تعزيز مشاريع تحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية يمكن أن يمثل حلًا مستدامًا لمعالجة نقص المياه، حيث يضمن توفير المياه بتكاليف تشغيل منخفضة، إلى جانب إعادة تأهيل محطات معالجة المياه العادمة لتقليل التلوث البيئي. إضافةً إلى ذلك، فإن توزيع صهاريج مياه متنقلة على الأحياء الأكثر تضررًا يمكن أن يشكل حلًا قصير الأجل لتلبية الاحتياجات العاجلة.

من المتوقع أن تسهم هذه الإجراءات في تحسين وصول السكان إلى مياه شرب نظيفة، والحد من انتشار الأمراض الناتجة عن تلوث المياه، وتعزيز استدامة إدارة الموارد المائية في غزة.

تعرض القطاع الصحي في غزة لضربة قاسية، حيث تعرضت 40% من المستشفيات للتدمير الكلي أو الجزئي، مما أدى إلى تراجع القدرة الاستيعابية بشكل خطير. كما أن 50% من الأدوية الأساسية غير متوفرة، مما أدى إلى صعوبة علاج المرضى، خاصة المصابين بأمراض مزمنة أو جروح ناجمة عن الحرب. بالإضافة إلى ذلك، فإن أزمة انقطاع الكهرباء أثرت بشكل مباشر على تشغيل المستشفيات، حيث تعمل مستشفيات كبرى، مثل “الشفاء”، بأقل من نصف طاقتها التشغيلية.

لمعالجة هذه الأزمة، يجب توفير دعم دولي عاجل من خلال إرسال مستشفيات ميدانية مجهزة بالمعدات والكوادر الطبية، وتعزيز الشراكة مع منظمات مثل منظمة الصحة العالمية وأطباء بلا حدود، إضافةً إلى تنظيم قوافل إمدادات طبية طارئة.

كما يتطلب الأمر إعادة تأهيل البنية التحتية الصحية من خلال بناء مستشفيات جديدة لتعويض المرافق المدمرة، وصيانة المستشفيات المتضررة، وإنشاء وحدات صحية متنقلة. تحسين أنظمة إدارة الطوارئ الصحية عبر تطوير آليات توزيع الأدوية والمستلزمات الطبية سيسهم أيضًا في تحسين كفاءة القطاع الصحي.

من المتوقع أن تسهم هذه الجهود في تحسين القدرة الاستيعابية للمستشفيات، وضمان توفر الأدوية الأساسية، وتعزيز استقرار القطاع الصحي رغم التحديات القائمة.

تعرّض قطاع التعليم في غزة لأضرار كارثية خلال الحرب، حيث دُمّرت 12 جامعة بشكل جزئي أو كلي، وأصبحت 278 مدرسة غير صالحة للاستخدام، مما أدى إلى حرمان 90,000 طالب جامعي و625,000 طالب في المراحل الأساسية من التعليم. تُقدَّر الخسائر المالية بأكثر من 33 مليون دولار، وسط انهيار البنية التحتية التعليمية وغياب أي خطة فورية لإعادة الإعمار.

كما تعاني المئات من المدارس التي لم تُدمر من الاكتظاظ ونقص الموارد الأساسية، إذ تحولت العديد منها إلى مراكز إيواء للنازحين، مما زاد من تعقيد استئناف الدراسة، إلى جانب ذلك، واجهت الجامعات في غزة دمارًا واسعًا، حيث تعرضت مباني أكاديمية وبحثية للقصف، وأصبحت غالبية من المختبرات غير صالحة للعمل، مما أثر بشكل مباشر على عشرات الآلاف من طلاب التعليم العالي.

لمواجهة هذه الأزمة، يجب دعم إعادة بناء المدارس والجامعات، وتوفير حلول تعليمية بديلة مثل التعلم عن بُعد، إضافةً إلى تقديم دعم نفسي للطلاب والمعلمين لضمان استمرار العملية التعليمية، ويجب اتخاذ خطوات عاجلة لاستعادة العملية التعليمية، وأبرزها: إعادة تأهيل المدارس المتضرر، ودعم التعليم العالي، من خلال دعم منح دراسية دولية لطلاب الجامعات المتضررين، وإنشاء برامج تعليم عن بعد بالتعاون مع مؤسسات دولية لحين إعادة تأهيل الجامعات، وتوفير دعم نفسي واجتماعي للطلاب، وتنظيم برامج دعم نفسي للأطفال الذين عايشوا الصدمات خلال الحرب، وتوفير برامج تدريب للمعلمين حول التعامل مع الطلاب في أوقات الأزمات.

من شأن هذه الحلول ضمان استئناف العملية التعليمية في أقرب وقت ممكن، وتعزيز استقرار الطلبة نفسيًا وأكاديميًا، فضلًا عن إعادة بناء قطاع التعليم ليكون أكثر مرونة في مواجهة الأزمات المستقبلية.

كشفت الحرب الأخيرة عن عمق الانقسامات السياسية بين الفصائل الفلسطينية، مما أظهر غياب رؤية موحدة لإدارة الأزمات. في ظل الحاجة الملحّة إلى تعزيز الوحدة الوطنية لإعادة الإعمار، تتفاقم التحديات نتيجة غياب التنسيق الداخلي والخلافات السياسية المتصاعدة. لذا، يصبح تشكيل حكومة وطنية شاملة ضرورة قصوى، إلى جانب إطلاق حوار وطني شامل لتعزيز الثقة بين الأطراف من خلال مشاريع مشتركة. كما يستوجب الوضع الداخلي الفلسطيني رقابة شفافة تضمن توزيعًا عادلًا للمساعدات، بالإضافة إلى دور فاعل للمجتمع المدني في دعم جهود المصالحة.

أظهرت الحرب الأخيرة تحديات حقيقية للوحدة الوطنية الفلسطينية، حيث تعمقت الانقسامات بين الفصائل، وسط غياب رؤية موحدة لإدارة قطاع غزة. وبينما تحتاج المرحلة المقبلة إلى جهد حثيث لتعزيز التوافق الداخلي، يبقى تحقيق الوحدة ضرورة حتمية للتعامل مع تداعيات الحرب ومواجهة الضغوط الإقليمية والدولية. وهذا يتطلب المزيد من تعزيز الثقة، وإطلاق حوار وطني شامل يقود لحكومة وحدة وطنية.

بناء الثقة بين الفصائل يتطلب خطوات عملية تشمل وقف الحملات الإعلامية العدائية وتنفيذ مشاريع مشتركة تهدف إلى تحسين حياة المواطنين. تنمية العلاقات الإيجابية بين الفصائل تؤدي إلى خلق بيئة أكثر استقرارًا وانفتاحًا على التعاون المستدام. لتحقيق ذلك، يمكن تشكيل لجان تنسيق مشتركة تُعنى بإدارة البرامج التنموية وإعادة الإعمار، فضلًا عن إطلاق مشاريع تخدم المواطنين بشكل مباشر، مما يساهم في تقليل التوترات بين الأطراف.

كما يُعد الحوار الوطني المفتوح بين الفصائل الفلسطينية أداةً فعالةً لتقريب وجهات النظر وتعزيز التفاهم، إذ يوفر بيئة مناسبة لصياغة رؤية وطنية موحدة تتماشى مع تحديات المرحلة المقبلة. لتحقيق ذلك، يجب تنظيم مؤتمرات دورية بدعم من جهات محايدة، مثل جامعة الدول العربية أو الأمم المتحدة، لتسهيل التواصل بين الفصائل، مع ضرورة إشراك مؤسسات المجتمع المدني لضمان مشاركة أوسع ودعم شعبي أكبر.

ومن المأمول أن تقود تعزيز الثقة والحوار الوطني لتشكيل حكومة تضم جميع الفصائل الفلسطينية يمكن أن يخلق إطارًا موحدًا لإدارة الأزمات وتنفيذ المشاريع التنموية، مما يساهم في تحسين الموقف الفلسطيني على المستوى الدولي وتسهيل الحصول على الدعم المالي والسياسي. لضمان نجاح هذه الخطوة، يتطلب الأمر إشرافًا دوليًا من جهات محايدة لضمان تنفيذ الاتفاقيات وتبديد أي مخاوف أو تحفظات من الأطراف المشاركة، إضافةً إلى تشكيل لجنة إشراف وطنية لضمان التوزيع العادل للموارد والمساعدات.

ومن المتوقع أن يؤدي تعزيز الوحدة الوطنية إلى تحقيق إدارة أكثر فاعلية للموارد والمساعدات، مما يعزز الثقة الداخلية والخارجية، إلى جانب تحسين صورة القضية الفلسطينية في المحافل الدولية وزيادة فرص الحصول على الدعم الدولي. كما ستساهم هذه الجهود في خلق بيئة سياسية واجتماعية مستقرة، تمهد الطريق لإجراء انتخابات وطنية شاملة.

فتحت الحرب الأخيرة المجال لعدة سيناريوهات متوقعة حول شكل الحكم وإدارة القطاع، حيث تواجه الأطراف الفلسطينية والإقليمية والدولية تحديات كبيرة لإعادة بناء القطاع وضمان استقراره الأمني والسياسي. فيما يلي استعراض مفصل للسيناريوهات الأربعة المحتملة، مع تحليل تأثيرها وإمكانية نجاحها:

في هذا السيناريو، تبقى حركة حماس هي القوة الرئيسية التي تدير قطاع غزة، لكن مع تقليل بروزها العلني في المشهد السياسي، حيث تركز على إدارة القطاع بشكل عملي لضمان حفظ الأمن وتسيير الحياة اليومية. ويعتمد نجاح هذا السيناريو على الاحتفاظ بسيطرة أمنية تضمن الاستقرار في القطاع، بالإضافة إلى تلبية الحد الأدنى من احتياجات السكان بالتعاون مع المجتمع الدولي. ولكن، قد يواجه هذا السيناريو صعوبات كبيرة، أبرزها استمرار الضغوط الدولية والإقليمية التي قد تعيق تدفق المساعدات، فضلًا عن غياب رؤية واضحة لإعادة الإعمار والتنمية، مما قد يؤدي إلى زيادة التوترات الداخلية.

يستند هذا السيناريو إلى تشكيل لجنة إدارة مؤقتة للقطاع تضم ممثلين عن الفصائل الفلسطينية، بإشراف مباشر من مصر، مع ضغط دولي على السلطة الفلسطينية للقبول بهذه اللجنة. يمكن أن يساعد الدعم المصري في ضمان التزام الأطراف بتنفيذ الاتفاق، كما أن وجود لجنة جامعة قد يخفف من التوتر بين الفصائل ويوفر إدارة متوازنة. ومع ذلك، قد تؤدي الخلافات المستمرة بين السلطة وحماس إلى تعطيل عمل اللجنة، بالإضافة إلى إمكانية تعرضها لضغوط دولية تؤثر على قراراتها وتوازنها السياسي.

وفقًا لهذا السيناريو، تستعيد السلطة الفلسطينية السيطرة الكاملة على قطاع غزة، بما يشمل الأمن والإدارة، وإدارة عملية إعادة الإعمار. تتمثل فرص نجاح هذا السيناريو في أن وجود قيادة موحدة للقطاع قد يسهل عملية إعادة الإعمار، بالإضافة إلى قدرة السلطة على استقطاب الدعم الدولي بحكم الاعتراف بها كممثل شرعي. لكن، قد يواجه هذا السيناريو مقاومة شديدة من حماس والفصائل الأخرى، مما قد يؤدي إلى صدام داخلي، كما أن انعدام الثقة بين سكان غزة والسلطة، نتيجة الانقسام المستمر منذ عام 2007، قد يُضعف من فعاليته.

في هذا السيناريو، يتم فصل ملف إعادة الإعمار عن الأوضاع السياسية، بحيث يتم إدارة قطاع غزة من خلال لجان دولية تحت إشراف دول عربية، مثل مصر وقطر، اللتين تلعبان دورًا رئيسيًا في تمويل المشاريع الكبرى. يتمثل النجاح المحتمل لهذا السيناريو في تسريع تنفيذ مشاريع التنمية وتقليص تأثير الانقسام الداخلي على إعادة الإعمار. ومع ذلك، فإن رفض الفصائل الفلسطينية لتقليص دورها في إدارة القطاع، إلى جانب احتمال قصور إشراك السكان المحليين في اتخاذ القرارات، قد يشكلان عقبات رئيسية أمام نجاح هذا السيناريو.

يتضمن هذا السيناريو تنازل حماس عن دورها الإداري والسياسي في القطاع، وترك إدارة الملفات الحيوية مثل الأمن والإعمار للجهات الدولية ولجنة إسناد وطنية. يمكن أن يؤدي هذا السيناريو إلى تحسين العلاقات مع الدول المانحة وتعزيز تدفق المساعدات، شريطة أن تكون الإدارة الدولية قادرة على التعامل مع التحديات المحلية. ولكن، قد يؤدي انسحاب حماس إلى فراغ سياسي وأمني يزيد من معاناة السكان، كما قد يواجه رفضًا شعبيًا إذا لم يتم تنظيمه بشكل مدروس.

يعتمد تحديد شكل الحكم في غزة بعد الحرب على قدرة الأطراف الفلسطينية على تحقيق توافق داخلي، والدور الذي ستلعبه الأطراف الإقليمية والدولية. جميع السيناريوهات تحمل فرص نجاح وفشل، لكن السيناريو الثاني (لجنة الإسناد) والرابع (إدارة دولية لإعادة الإعمار) قد يكونان الأكثر واقعية لتحقيق توازن بين المصالح المحلية والدولية.

من ناحية استقرار القطاع، قد يضمن السيناريو الأول استقرارًا أمنيًا لكنه لا يعالج القضايا الاقتصادية والاجتماعية بشكل كافٍ، بينما يوفر السيناريو الثاني إطارًا أكثر شمولًا يعتمد على التوافق السياسي. أما السيناريو الثالث، فقد يؤدي إلى استقرار أكبر إذا نجحت السلطة في كسب ثقة السكان، في حين أن السيناريو الرابع قد يحقق تقدمًا سريعًا في إعادة الإعمار، لكنه قد يثير جدلًا سياسيًا داخليًا.

أما فيما يتعلق بإدارة الموارد والمساعدات، فإن السيناريو الثاني والرابع يوفران فرصًا أفضل لضمان شفافية توزيع المساعدات، في حين قد يواجه السيناريو الأول والثالث صعوبات في جذب الدعم الدولي بسبب التوترات السياسية. على الصعيد الإنساني، تعتمد جميع السيناريوهات على قدرة الأطراف على توفير الاحتياجات الأساسية للسكان، حيث يتطلب نجاح أي سيناريو تنسيقًا دوليًا فعالًا وضمان تمويل مستدام.

وفي الختام، لا يجب النظر إلى ما بعد الحرب باعتباره مجرد فرصة لإعادة الإعمار، بل لحظة فارقة تستوجب قرارات حاسمة لتوحيد الصف الوطني وبناء مستقبل مستدام لشعب أنهكه الحصار والانقسام والحروب المتكررة. إن أي حل، سواء كان استمرار الوضع الراهن، تشكيل لجنة إسناد، عودة السلطة، أو إدارة دولية للإعمار، لن ينجح إلا إذا كان قائمًا على أولويات وطنية واضحة ورؤية موحدة تضع مصلحة الشعب الفلسطيني فوق كل اعتبار. إن تجاوز التحديات الحالية يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وتوافقًا داخليًا يعزز وحدة القرار الفلسطيني، ويعيد القضية إلى مسارها الصحيح على الصعيدين الوطني والدولي.