الأربعاء 22/يناير/2025

وحيدون في وجه العاصفة.. حكايات نجاة وصمود في غزة

الأربعاء 25-ديسمبر-2024

مدارك / هيئة التحرير
في كل خيمة وزقاق في قطاع غزة، تتجسد المآسي وتتصاعد الآلام، فهناك قصص وجع تدمي القلوب، نتيجة لحرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة للسنة الثانية. من بين هذه القصص، تبرز حكايات من نجوا وحدهم بعد أن فقدوا جميع أفراد أسرهم الذين ارتقوا شهداء، ليحملوا وحدهم عبء الماضي والحاضر، ويكافحوا في سبيل استعادة ما تبقى من حياة دمرها الاحتلال إلى غير رجعة.


في مقابلات خاصة مع الناجين وذويهم استطلعت “مدارك” حجم الألم والصراع الذي يعيشونه في سبيل التكيف مع حياة جديدة، قست عليهم منذ اللحظة التي فقدوا فيها أحبتهم. نتعرف من خلال هذا التقرير على صمودهم في وجه التحديات النفسية والاجتماعية، وكيف يحاولون جاهدين تخطي مأساتهم والبحث عن بارقة أمل تحت الرماد.

الطفل تيسير أبو شحمة هو واحد من هؤلاء الناجين، بعدما قصف الجيش الإسرائيلي منزل عائلته في 27 أكتوبر 2023، ليستشهد 9 من أفراد أسرته منهم والديهم وشقيقه الوحيد الأصغر، ولا يتوقف عن القول: “بدي (أريد) أروح على الجنة عند ماما”.

كلمات مليئة بالقهر تخرج من فم الطفل الصغير الذي لا يتعدى السبع سنوات، وهو يجلس في حضن جده لأمه مرددًا: “بدي أستشهد لأذهب عند أمي”.

في إحدى خيام النازحين غرب خانيونس، يحتضن الجد داوود أبو شحمة حفيده، وهو يتذكر كيف جاء خبر قصف منزل ابنته كالصاعقة عليه في الشهر الأول للحرب، توالى انتشال الشهداء من تحت المنزل، استشهدت ابنته وزوجها وطفلهما الصغير ابن الثلاث سنوات مع 6 آخرين من العائلة وكان تيسير من الناجين في ذلك القصف، واليوم هو في حضانتي.

لم يتمالك دموعه، وهو يشير إلى الحالات الصعبة التي يمر بها حفيده جراء فقد والديه وشقيقه، حيث يعاني من الكوابيس، وأكثر ما يؤلمه عندما يأتي إليه ويقول: “نريد أن نذهب لليهود (جيش الاحتلال) لنستشهد ونذهب عند أمي”.
يتمنى الجد أن يتمكن من رعاية حفيده حتى يصلب عوده ويواصل مشوار الحياة بعد المأساة التي حلت به.

ووفق معطيات خاصة حصلت عليها “مدارك” من المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي، إسماعيل ثوابتة؛ فإن 902 عائلة فلسطينية مسحها الاحتلال من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

كما أن هناك 1,364 أسرة فلسطينية قتل الاحتلال جميع أفرادها ولم يتبقَ منها سوى فرداً واحداً في الأسرة الواحدة، في حين هناك 3,472 أسرة فلسطينية قتل الاحتلال جميع أفرادها ولم يتبقَ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة.

مريم عماد، ابنة الـ 19 عامًا، كانت حياتها تمضي بسعادة في عامها الجامعي الثاني وسط أسرة محبة وحنونة، لكن كل ذلك أصبح من الماضي المؤلم، بعد أن قتل الاحتلال والديها وشقيقيها الوحيدين مع 32 آخرين من عائلتها، منهم جدها وعدد من أعمامها وزوجاتهم وأبنائهم.

“فقدت كل شيء”، بمرارة تقول مريم التي لا تزال تعيش مأساة الحرب والخوف من الفقد مع استمرار القصف والنزوح. وتضيف: “لا شيء يعوض حنان الأم ومحبة الأب، لكن الحمد لله أنهم شهداء اصطفاهم الله.. ارتاحوا مما نعانيه، ليتني كمن معهم”.

هل نجوت فعلاً؟ بمرارة يتساءل درويش قنديل (46 عامًا)، الذي استشهدت عائلته المكونة من زوجته وستة من أبنائهما، ثلاثة بنات أكبرهم (18 عامًا) كانت سنة أولى هندسة ديكور، والثانية (17 عامًا) والثالثة (15 عامًا)، والأولاد الثلاثة الأكبر (10 أعوام)، ثم (8 أعوام) والأخير (6 أعوام).

أسرة درويش استشهدت مع عدد كبير من عائلته التي تضم والدته وعدد من إخوانه وزوجاتهم وأبنائهم. يتذكر بأسى تفاصيل ذلك اليوم، حين اقتحم جيش الاحتلال عمارتهم السكنية وصادر كل أجهزة الهواتف والحواسيب والذهب والأموال.

يضيف درويش: “اعتقلني الجنود مع شقيقي موسى ومصطفى وابن شقيقي محمد. ألقونا في السجن، ثم بعد مغادرتهم قصف الطيران الحربي البناية بأكملها، مما أسفر عن استشهاد 25 فردًا من العائلة”.

في الشهر الثالث للحرب على غزة، ولد الطفل محمد سالم ليكون بعد 8 أيام مع مأساة استشهاد والدته شيماء ووالده باسل وإخوته في مجزرة ارتكبها الاحتلال في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة في ديسمبر 2023.

يروي حسام ديب خال الطفل مأساة محمد، الذي ولد يوم 12 ديسمبر 2023 وسط حصار إسرائيلي وقصف متواصل، ما أجبر أمه على ولادته ولادة بدائية في المنزل الذي نزحت إليه دون أي رعاية صحية.

يؤكد الدكتور خليل شقفة، مدير عام الصحة النفسية في وزارة الصحة بغزة، أن فقد الأسرة بأكملها يؤدي إلى انعكاسات نفسية خطيرة، تشمل: الإحباط والعزلة، وإيذاء النفس أو الآخرين، واضطرابات شديدة تتطلب علاجًا مكثفًا.

وأشار شقفة إلى أن القطاع يشهد زيادة غير مسبوقة في الحالات النفسية التي تحتاج إلى علاج. وحدات الصحة النفسية في المستشفيات تعالج يوميًا ما بين 50 و60 حالة.

كما أوضح أن المستشفيات في القطاع أنشأت وحدات خاصة لمعالجة الآثار النفسية الناتجة عن العدوان، حيث يتم تقديم الدعم النفسي للمصابين والجرحى.

رغم الألم، يبقى الناجون في غزة يتشبثون بالأمل، ويواصلون حياتهم بما تبقى من قوة وإيمان. الحرب سرقت منهم الأهل والمأوى، لكنها لم تستطع أن تنتزع منهم إرادتهم. وبين الأنقاض، يشرق الأمل، وتظل غزة شاهدة على صلابة الإنسان وقدرته على المقاومة حتى في أحلك الظروف.