الأربعاء 22/يناير/2025

نورمان فنكلستاين .. السابح عكس التيار

الأربعاء 25-ديسمبر-2024

هيئة التحرير – مدارك

وجه مستطيل بجبهة طويلة ومسطحة تسقط على جفنين بارزين يظلان عيني صقر. أنف إغريقي، وعظام ناتئة لفكين عريضين ينتهيان بذقن مدببة. رقبة طويلة بحنجرة بارزة، تستقر على جسم رياضي فارع الطول. ملامح محارب من إسبرطة، تمتع بها “نورمان فنكلستاين”، لعلها انعكست شجاعةً على روحه المقاتلة التواقة أبدًا للحقيقة والعدالة.

وُلدَ الباحث الأميركي بروفيسور العلوم السياسية نورمان غاري فنكلستاين عام 1953 في مدينة نيويورك، لأبوين يهوديين مهاجرين من بولندا، نجيا من معسكرات الاعتقال النازية فيما حُرق أقاربهما هناك. عاش مع أبويه في حي يهودي في بروكلين، لكن جزءًا من أبويه ظل يعيش مرتهنًا في معسكرات الاعتقال النازية، تتلظى روحيهما بالمحرقة. لم يتحدث والداه عن الذكريات المفجعة، ولم يسألهما لأنه لم يرغب في فتح أبواب الجحيم.


يقول نورمان: “كانا ينظران إلى العالم من منظور الهولوكوست، كرها الحروب، وتعاطفا مع ضحايا الاضطهاد”. كان أبوه يلوذ بالصمت والعمل المضني في مصنع، أما أمه فكان غضبها عارمًا وهي تشاهد أخبار حرب فيتنام، كانت تعتبر أنه يقع على اليهود الذين نجوا من المحرقة أن يغضبوا من أجل المضطهدين.

بدأ ذلك مبكرًا جدًا؛ وهو في الصف العاشر بمدرسة جيمس ماديسون بمدينة نيويورك، عندما انفجر غضبه حيال المجازر التي ترتكبها بلاده في فيتنام؛ تصف زميلته “ماكسين تسفايغراتش” ردّة فعله بالهستيريا. كان لا يستطيع تنحية الشعور بالغضب الأخلاقي جانبًا من أجل الاستمرار في الحياة كما يفعل أقرانه. اعترف بنفسه بأن أحاديثه في السياسة واعتراضه على حرب فيتنام، ومنافحته عن الحقوق المدنية للسود جعلا منه شخصًا “لا يُطاق”.

انكب نورمان على القراءة والدراسة، فقد نشأ على أن اليهودي يولي أهمية قصوى لحياة العقل. تخرّج عام 1974 من جامعة بينغهامتون المشهورة بنشاطها البحثي في نيويورك، سافر الفتى اليساري إلى باريس وحصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية عام 1979، وعاد إلى أميركا ليلتحق ببرنامج الدكتوراه في جامعة برنستون بأطروحته عن الصهيونية.

لم ينتسب أبواه إلى الصهيونية، ولم تغريهما صورة المقاتل اليهودي الذي قدمته إسرائيل غداة حرب 1967. بالنسبة لنورمان وأبويه، اليهودي النموذجي هو المسالم والطموح والمبدع.

مثّل غزو إسرائيل للبنان عام 1982، الذي خلّف عشرين ألف قتيل فلسطيني ولبناني، نقطة تحوّل محورية لنورمان؛ كانت بداية مناصرته لعدالة القضية الفلسطينية، ليس من خلال الاحتجاجات فقط، بل عبر كشف زيف الدعاية الصهيونية. كان كتاب “من زمن سحيق” الذي أصدرته الصحفية جوان بيترز عام 1984 أحد أخطر أدوات الدعاية الصهيونية لتبييض صورة إسرائيل بعد غزو لبنان؛ ادعت بيترز أن الفلسطينيين مجرد مهاجرين جدد جاؤوا إلى الأراضي اليهودية خلال القرن التاسع عشر. تلقفت وسائل الإعلام الأميركية الكتاب بترحيب كبير، وعدّه المثقفون اكتشافًا تاريخيًّا.

رغم نصيحة البروفيسور إدوارد سعيد بتجاهل الكتاب، أصرّ نورمان على تفنيده. بدأ عملًا شاقًا وصل فيه الليل بالنهار، ليكتشف أن الكتاب مليء بالاحتيال والتزوير. عرض نتائجه على 20 أكاديميًا، وكان الفيلسوف نعوم تشومسكي من أوائل من دعموا اكتشافاته.

قال له تشومسكي: “بهذا العمل لا تهدم الكتاب فقط، بل تدك أركان المشهد الثقافي الأميركي. لن يعجبهم ذلك، وسوف يحاولون تدميرك.”

أصرّ نورمان على نشر اكتشافاته، رغم أن جامعة برنستون عرضت عليه وقف حملته مقابل وظيفة. رفض العرض، وواجه تبعات قراره. قاطعه المشرفون على أطروحته، وماطلوه في مناقشتها. رغم حصوله على الدكتوراه، لم يُمنح كرسي أستاذية في أي جامعة. عمل براتب متواضع مما اضطره للرحيل عن مدينته الأثيرة نيويورك حيث يرتفع مستوى المعيشة إلى شيكاغو.

زار نورمان الضفة الغربية، وتواصل مع العائلات الفلسطينية، مما أكسبه حبًا وتقديرًا كبيرًا. وثّق تجربته في كتابه “صعود وأفول فلسطين: رواية شخصية عن سنوات الانتفاضة”. كما أصدر كتابه “صناعة الهولوكوست”، وهو دراسة علمية مذهلة تكشف استغلال إسرائيل لمعاناة اليهود لتبرير جرائمها، يقول نورمان: “الهولوكوست النازي قد انتهى من أن يكون مصدرًا للتنوير الأخلاقي والتاريخي وتحوّل لأداة ابتزاز رخيصة لنفر من اليهود”.

اتهم نورمان إسرائيل بتحويل غزة إلى “معسكر اعتقال نازي”، ودافع عن حركة حماس، عادًّا أنها سعت بطرق سلمية لنيل بعض الحقوق الفلسطينية قبل أن تلجأ إلى المقاومة المسلحة.

في كتابه “معرفة الكثير”، رصد نورمان تراجع دعم اليهود الأميركيين لإسرائيل، بعد مرور 12 عاما على تأليفه الكتاب يقول فنكلستاين: إن طوفان الأقصى جعل الدفاع عن جرائم إسرائيل أمرًا مستحيلًا، ورغم توحش إسرائيل، فإن العالم بدأ يدرك أن سجلها لا يمكن الدفاع عنه.

نورمان فنكلستاين ليس مجرد باحث أكاديمي، بل مقاتل في معركة الحقيقة والعدالة، وفي دفاعه عن القضية الفلسطينية لم يكن مدفوعًا بانتماء عاطفي، بل بإيمان عميق بأن النضال من أجل كشف الحقيقة وتحقيق العدالة هو التزام إنساني.

قال ذات مرة: “لو كان الأمر يتعلق بسكان المريخ، لفعلت الشيء نفسه.”