مدارك / هيئة التحرير
داخل خيام النزوح وبين ركام المنازل المدمرة وتحت هدير الطائرات الحربية، وأصوات صواريخها القاتلة، ينحت الفلسطينيون بصمودهم دربًا نحو المستقبل، حاملين شغفهم الأبدي للتعليم كراية أمل وسط ظلام الحرب والإبادة.
في مخيمات النزوح التي تحولت بفعل المأساة إلى ملاذات مؤقتة في كل قطاع غزة، لا يزال الفلسطينيون يؤمنون بأن القلم هو سلاحهم الأهم. ففي خيام بسيطة بلا جدران تحميها، أقاموا فصولًا دراسية، مزجوا فيها بين الحزن المتراكم والإصرار على الحياة، ليؤكدوا أن الحرب قد تقتل الجسد، لكنها لن تسلبهم حلم التعلم وبناء المستقبل.
سنتعلم رغم كل شيء
تنطلق فاطمة ابنة الأعوام التسعة كل يوم من خيمتها إلى الخيمة التعليمية حاملة دفاترها وأقلامها في حقيبة ممزقة، يحذوها الأمل بتوقف الحرب والقتل، وأن تعود إلى مدرستها، تقول: الخيمة هي مدرستي، سنتعلم رغم كل شيء، يكفي السنة الماضية ضاعت عليّ. كانت فاطمة في الصف الثالث الابتدائي عندما اندلعت الحرب الإسرائيلية في 7 أكتوبر 2023 وسرعان ما وجدت نفسها نازحة من غزة إلى خانيونس.
وبعد أن طالت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لجأ معلمون ومعلمات إلى افتتاح خيام لتعليم الطلبة سرعان ما التحق بها المئات من الطلبة لتلقي التعليم في العلوم الأساسية اللغة العربية والإنجليزية والرياضيات والعلوم. تقول المعلمة أمل محمد لمدارك: صحيح أننا نعيش أوضاعا صعبة، نجوع فيها ونعاني من الخوف والقصف، إضافة لإمكانية استشهادنا فلا مكان آمن والقصف يمكن ان يأتي في أي لحظة لكن لا نملك إلا أن نتمسك بالأمل ونبني أطفالنا بالعلم فهم أملنا في المستقبل.
داخل الخيمة يجلس الطلبة من أعمال مختلفة لا تتعدى 9 سنوات، دون زي موحد، في ملامحهم يرتسم الخوف مع صوت كل انفجار وهدير طائرة، وسرعان ما يطردون كل ذلك وهم يتفاعلون مع معلميهم في دروسهم.
تحرم الحرب 788 ألف طالب في قطاع غزة من الالتحاق بمدارسهم وجامعاتهم التي دمرت أعداد كبيرة منها منذ بدء العدوان، وفق وزارة التربية والتعليم الفلسطينية.
إحصائية صادمة وأمل في المستقبل
رغم الأسى والقهر، يتلقى عبد الرحمن دروسه من خيمة لأخرى استعدادا لتقديم امتحان الثانوية العامة في الفرع الأدبي وهو الذي فقد جميع أفراد أسرته شهداء، ومعهم عددًا من زملائه وأساتذته. عملاً بوصية والديّ، وأملاً في المستقبل، أغالب أحزاني لأتمن من الدراسة وفي كل لحظة أخيل أهلي وأصدقائي الشهداء وأتساءل أيضًا ما الذي ينتظرنا.
واستشهد في قطاع غزة أكثر من 13054 طالبا، وأصيب 21320 آخرين في قطاع غزة، واستشهد 657 معلما وإداريا وأصيب 3904 منذ بداية العدوان حتى 14 يناير 2024 وفق وزارة التعليم الفلسطينية.
ودّمرت إسرائيل 128 مدرسة كليا و57 جزئيا ضمن منشأة تعليمية تعرضت للاستهداف والأضرار جراء الهجمات العسكرية الإسرائيلية بما فيها عشرات المدارس التابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”.
مبادرات فردية
وانطلقت الخيام التعليمية مبادرات فردية في البداية من معلمين وطلاب جامعات، لتوفير حد أدنى من التعليم غير النظامي لآلاف الطلبة، وسرعان ما تطور بعضها إلى مدارس شبه رسمية تقدم تعليمًا ترعاه وزارة التربية والتعليم ومنظمات دولية منها اليونسيف.
في مواصي خانيونس، التي أصبحت ملجأ لمئات آلاف النازحين، انطلقت مبادرة تطوعية للتعليم سرعان ما تحولت إلى مدرسة متكاملة من الخيام. يقول عبد الله أحمد مدير المدرسة: إن الخيمة التعليمية انطلقت بمبادرة فردية وجهود تطوعية من معلمين وخريجي جامعات، لاحتضان الطلبة وتعليمهم ومحاولة التخفيف عنهم من آثار الحرب عبر أنشطة دعم نفسي، ووجدت إقبالا كبيرا من الطلبة وتحولت إلى مدرسة فعلية، أنهت العام الماضي، وها هي تدشن عاما دراسيا ثانيا.
وفي 2 سبتمبر/أيلول الماضي، قالت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” إن أكثر من 600 ألف طفل بقطاع غزة يعانون صدمة شديدة ومحرومون من التعليم، فيما تحولت مدارسهم إلى مراكز لجوء مكتظة بالنازحين وغير صالحة للتدريس.
التعليم الإلكتروني
ومع بداية العام الجاري، أطلقت وزارة التعليم الفلسطينية مبادرة التعليم الإلكتروني عبر فصول افتراضية لإلحاق طلبة غزة في التعليم وعدم ضياع العام الدراسي عليهم، غير أن عدم توفر الكهرباء والإنترنت يحول دون التحاق أغلب الطلبة بهذه المبادرة ما يدفعهم للالتحاق بالخيام التعليمية والفصول التي افتتحت في مخيمات النزوح.
وسبق أن حذر المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، فيليب لازاريني من أن تعذر تعليم الأطفال الفلسطينيين في قطاع غزة بسبب الهجمات الإسرائيلية قد يؤدي إلى “ضياع جيل كامل”.
المعلمة عبير سعيّد تقول إن الاحتلال قتل الطلبة والمعلمين ودمر المساجد لأنه يريد تدمير الحياة الفلسطينية وإبادة كل شيء بما في ذلك التعليم لذلك انطلقنا بمبادرات لمواجهة سياسة الاحتلال في تجهيل الطلبة بغزة.
يترقب الفلسطينيون دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ ويبقى المشهد في خيام النزوح يعكس إصرارهم على بناء مستقبلهم رغم الدمار والمعاناة. يحمل الأطفال دفاترهم ليرسلوا للعالم رسالة بأن الحرب قد تسلب المنازل، لكنها لن تستطيع إطفاء شعلة التعليم والطموح.