مدارك / هيئة التحرير
على مدار أكثر من 30 عامًا بقي القائد الفلسطيني محمد الضيف ينافح الاحتلال الإسرائيلي ويوجه إليه الضربات تلو الضربات، نجح في الاختفاء لكن بصماته وأثر زرعه كان واضحًا في كل مكان من أرض غزة والضفة الغربية، حتى رحل شهيدًا في أعظم معركة قادها وأطلق خطابها الأول.
رحل القائد العسكري محمد الضيف، أحد أبرز رموز المقاومة الفلسطينية، شهيدًا خلال معركة “طوفان الأقصى” التي قادها مع إخوانه في المجلس العسكري لكتائب القسام، تاركًا إرثًا نضاليًا حافلًا حوّل مسار الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
وأعلن الناطق العسكري لكتائب القسام، أبو عبيدة، في كلمة مسجلة مساء الخميس (30 يناير 2025)، استشهاد الضيف مع ثلة من قادة المجلس العسكري، مؤكدًا أنهم سطّروا “أعظم ملاحم الصمود” في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية.
رمز التخفي وإعادة صياغة المعادلات
ارتبط اسم محمد الضيف (58 عامًا) بالمقاومة الفلسطينية منذ تسعينيات القرن الماضي، كواحد من أبرز وجوه الجيل المؤسس لكتائب القسام.
ومع انكشاف دوره المقاوم في ذلك الوقت، بدأ رحلة أطول مطاردة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تحوّل خلالها إلى “شبح” يُرهب الاحتلال، ونجح في تفادي عشرات محاولات الاغتيال، وأدار عمليات نوعية أعادت رسم خريطة المواجهة، وصولًا إلى معركة “طوفان الأقصى” (أكتوبر 2023)، التي كشفت هشاشة المنظومة الأمنية الإسرائيلية رغم بطشها.
من مخيمات اللجوء إلى قلب المقاومة
وُلد محمد دياب المصري (الضيف) عام 1965 في مخيم خان يونس بغزة، لعائلة مُهجّرة من القبيبة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. نشأ في بيئة تُعاني ويلات اللجوء والاحتلال، وهو ما أجبره مبكرا على العمل في مهن عدة، ليساعد والده الذي كان يعمل في محل للغزل، وبعد أن كبر أنشأ مزرعة صغيرة لتربية الدجاج، ثم حصل على رخصة القيادة لتحسين دخله.
درس العلوم في الجامعة الإسلامية بغزة، وأثناء ذلك برز طالبا نشيطا في العمل الدعوي والطلابي والإغاثي وفي مجال المسرح.
تشبع الضيف في فترة دراسته الجامعية بالفكر الإسلامي، وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان من أبرز ناشطي الكتلة الإسلامية، ثم التحق بحركة حماس وعُدّ من أبرز رجالها الميدانيين.
وتخرّج في الجامعة الإسلامية بغزة، وانخرط في صفوف الحركة الإسلامية، وشارك في انتفاضة 1987.
اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي محمد الضيف عام 1989، وقضى 16 شهرا في سجونها، وبقي موقوفا دون محاكمة بتهمة العمل في الجهاز العسكري لحماس.
وتزامن خروجه من السجن مع بداية ظهور كتائب القسام بشكل بارز على ساحة المقاومة الفلسطينية، وذلك بعد تنفيذها عمليات عدة ضد أهداف إسرائيلية.
اعتقلته السلطة الفلسطينية في مايو/أيار 2000، لكنه تمكن من انتزاع حريته مع بداية انتفاضة الأقصى، التي عُدّت محطة نوعية في تطور أداء الجناح العسكري لحماس، كما كشفت هذه المرحلة عن قدرة كبيرة لدى الضيف في التخطيط والتنفيذ أقضّت مضاجع الاحتلال بعمليات نوعية أوقعت عشرات القتلى ومئات الجرحى.
ووضعته واشنطن عام 2015 على لوائح الإرهاب.
مسيرة عسكرية حافلة
في مسيرته العسكرية مرّ القائد محمد الضيف بمحطات حافلة ترك فيها بصمات جليلة على النحو الآتي:
التأسيس: بعد الإفراج عنه عام 1991، انضم الضيف للمجموعات الأولى لكتائب القسام، وشارك في تنفيذ عمليات نوعية، مثل خطف الجندي الإسرائيلي “نخشون فاكسمان” عام 1994، حيث كان هو الملثم الذي سجل إعلان أسر الجندي الإسرائيلي.
الاختفاء والتخطيط: توارى عن الأنظار بعد عمليات الثأر لاستشهاد المهندس يحيى عياش (1996)، وأدار إعادة بناء الخلايا العسكرية رغم ملاحقة السلطة الفلسطينية له.
قيادة الجهاز العسكري: تولى قيادة الكتائب بعد استشهاد الشيخ صلاح شحادة عام 2002، وأصبح مهندس التطوير العسكري، من صناعة الصواريخ إلى شبكة الأنفاق التي شكلت رعبًا إسرائيليًا.
معارك مصيرية: قاد الضيف مواجهات كبرى، مثل توجيه الضربات التي أفضت لانسحاب الاحتلال من قطاع غزة عام 2005، ومعركة “سيف القدس” (2021)، و”طوفان الأقصى” (2023)، التي كسرت نظرية الأمن الإسرائيلية.
محاولات الاغتيال… إصرار على البقاء في الميدان
نجا الضيف من 7 محاولات اغتيال على الأقل، أبرزها:
2002: إصابته بجروح خطيرة بقصف سيارة في غزة.
2006: إصابته خلال العدوان الإسرائيلي بعد أسر الجندي شاليط.
2014: تدمير منزله واستشهاد زوجته وابنه في عدوان غزة، لكنه خرج من تحت الأنقاض.
قائد الظل… أسطورة صنعت الرعب في قلب الاحتلال
لم يظهر الضيف علنًا طوال مسيرته، واكتفى بتسجيلات صوتية نادرة، لكن بصماته العسكرية ظلت حاضرة في كل معركة. يُعد القائد الشهيد العقل الاستراتيجي الذي حوّل المقاومة من مجموعات مسلحة إلى جيش منظّم يفرض معادلات ردع متطورة، بدءًا من صواريخ تضرب تل أبيب، وصولًا إلى اقتحام معسكرات الاحتلال.
وتحول الضيف إلى أيقونة ورمزًا للمقاومة، ردد الشباب الفلسطيني في المظاهرات التي خرجت في القدس في مايو/أيار 2021 شعار “حط السيف قبال السيف.. إحنا رجال محمد ضيف”، حين سعى الاحتلال الإسرائيلي إلى طرد عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح الملاصق للحرم القدسي وتسليمه لمستوطنين إسرائيليين.
وحذر الضيف في تلك الفترة قائلا “إن لم يتوقف العدوان على أهالي حي الشيخ جراح في القدس المحتلة في الحال فإن كتائب القسام لن تقف مكتوفة الأيدي وسيدفع الاحتلال الثمن غاليا”.
وأكد أن قيادة المقاومة الفلسطينية وكتائب القسام تراقبان ما يحدث في القدس عن كثب، قبل أن تتحركا فعليا ردا على استمرار العدوان الإسرائيلي في القدس.
وكانت قوات الاحتلال قد منعت ترديد اسمه في المظاهرات أو رفع المحتجين العلم الفلسطيني. وبات هتاف “حط السيف قبال السيف.. إحنا رجال محمد ضيف”، حاضرًا في كل تظاهرات الفلسطينيين في الضفة والقدس والخارج.
إرثٌ يتجاوز الرمز… دروس في التحدي
رحل الضيف تاركًا إرثًا يُلهم الأجيال:
استراتيجيًّا: أثبت أن المقاومة قادرة على اختراق “المناعة الأمنية” الإسرائيلية.
نضاليًّا: جسّد نموذج القائد الذي يرفض الهزيمة، ويختار الشهادة في ساحة المعركة.
إنسانيًّا: تحوّل إلى أيقونة للصمود رغم كل محاولات تشويهه إسرائيليًا ودوليًا.
لم يكن محمد الضيف مجرد قائد عسكري، بل مدرسة في التخطيط والصبر، حوّل ظروف الحصار والضعف إلى أدوات للقوة. رحل جسده، لكن سيرته ستظل جزءًا من ذاكرة شعب يؤمن بأن كل شهيد يُخلّف ألف مقاتل.